هناك في عالم الفيزياء والكوسمولوجيا مفاهيم تم التخلي عنها مع مرور الوقت وظهور نظريات جديدة ،" مثل الأثير، واللون لوصف المادة على المستوى الذري وما دون الذري& وغيرها"، فلماذا لا يمكننا التخلي عن مفهوم الزمن؟&

الإدراك الحدسي لمفهوم الزمن يبدو سهلاً تقبله ، ولكن في واقع الأمر هناك سمات وخصائص& كثيرة تجعله مركباً ومعقداً تجعل من المستحيل سبر ماهيته تقريباً. فبنية وتركيبة الزمن " خطية" أي كالخط المستقيم ، وكل نقطة على الخط تمثل لحظة. وكذلك فإن هذا الخط& المستقيم " الزمني" موجه أو ذو اتجاه، فالماضي مختلف عن المستقبل . لذلك فإن هذا الخط الزمني المستقيم يتضمن لحظة هي غاية في الخصوصية ألا وهي " الحاضر" الذي يفصل بين الماضي والمستقبل، وبالتالي فهو بمعنى من المعاني، يمكن اعتباره الوحيد واقعياً أو حقيقياً لأننا نعيشه. إلى ذلك نضيف أن الزمن مفهوم قابل للقياس والحساب بالثواني والدقائق والساعات والأيام والأسابيع والشهور والسنين والقرون الخ ، وهو إلى جانب ذلك شمولي أو كوني فهو ذاته في كل مكان، وأخيراً وليس آخراً، الزمن " يمر أو يجري أو يتدفق" حتى لو لم يحدث شيء أو لا يتحرك شيء يقرن به كما يعتقد غالبية البشر. فللزمن واقعه الخاص المنفصل عن واقع محيطه والمكان الذي يحتويه، ومستقلاً عن تعقيدات الأحداث التي تتعاقب عبره . يمكننا من خلال هذه الخواص والسمات إعطاء " صورة" قد تكون ساذجة، وذلك باعتبار الزمن& الكوني أو زمن الكون المرئي& بمثابة ضربة أو خفقة رقاص أو دقة لساعة كونية.

بيد أن تقدم العلوم والتكنولوجيا أظهرت أن العالم مختلف عما يبدو لنا فالعديد من المفاهيم التي كانت " بديهية" في وقت ما، كتسطح الأرض وثباتها أو سكونها لم يتم تثبيتها واستخدامها سوى لفترة محدد من التاريخ& الكوني. والحال يمكن أن يحدث نفس الشيء بالنسبة لمفهوم الزمن. فاليوم بتنا نعرف أن الزمن " ليس شمولياً و لا كونياً " فالمدة الزمنية لحدث ما تبدو& عموماً هي ذاتها& مع مختلف الأشخاص ، والسبب الوحيد لهذا الاتساق& والتوافق هو أن ساعاتنا ليست دقيقة تماماً ، فالساعات الذرية أثبتت لنا ، وفق ما جاء في نظرية آينشتين في النسبية العامة، أن الزمن الذي تشير إليه الساعات الذرية أو النووية يعتمد على السرعة لكل شخص ، وعلى موقع وارتفاع كل شخص ، إلى جانب عوامل أخرى كشدة الجاذبية والتواجد بالقرب من ثقب أسود& والتنقل بسرعات عالية تقرب إلى سرعة الضوء الخ... فالزمن يختلف &من شخص لآخر حسب مكانه وحركته وسرعته وتحركه . وكلما تقدمنا في علم الفيزياء والكونيات تنتفي خصائص أخرى للزمن الحدسي وتفقد& علاقتها& وقيمتها . فالزمن النيوتني الثابت والمطلق يختلف& عن الزمن الآينشتيني النسبي والممتزج بالمكان. فلقد اكتشف آينشتين ، قبل أكثر من قرن، أن الزمن لا " يجري أو يمر " بنفس الإيقاع بالنسبة لجميع المراقبين رغم افتقاده للأدوات التقنية المتطورة& والمفاهيم النظرية الحديثة في ذلك الوقت المبكر& في بدايات القرن العشرين، فلم يكن يمتلك في ذلك الوقت سوى الميكانيك النيوتني وتشخيصات غاليله& والكهرومغناطيسية لفراداي وماكسويل& وثقالة نيوتن في الجاذبية . وبالرغم من فعالية وصلاحية تلك النظريات إلا أنها كانت مبنية على مفاهيم متناقضة كتلك المتعلقة بسرعة الضوء ، التي قال آينشتين أنها ثابتة& وليست متغيرة، لذلك كان لا بد من التوصل إلى مفاهيم جديدة تتجاوز تلك المفارقات أو التناقضات وبالتالي يجب إعادة النظر في الكثير من المفاهيم ، بما فيها مفهومنا عن " الزمن" . واليوم نجد أنفسنا في وضع مشابه لما كان عليه الحال في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين . فلدينا اليوم نظريتان يشكلان دعامتي الفيزياء المعاصرة وهما فعالتان جداً ويتمتعان بمصداقية هائلة وعلى مدى أكثر من قرن، وأقصد بهما: الميكانيك الكمومي أو الكوانتي والنسبية العامة. لكنهما مبنيتان على مفاهيم تبدو متناقضة ومتنافرة ومتصارعة مما يدفعنا لمعاودة النظر في مفاهيمنا لصياغة خارطة مفاهيمية متجانسة ومقبولة . ولو أخذنا ما جاء في هاتين النظريتين معاً فإنهما ستشيران إلى أن جميع جوانب& المفهوم الساذج& للزمن ليست سوى خصائص محلية وجزئية للحالة الزمانية المرتبطة بحواسنا& وبخصوصية تجاربنا& ومحدودية معارفنا و|دراكنا. فالنسبية العامة علمتنا أنه لايمكن فصل الزمن عن نسيج متراكب ومتواصل ومرتبط مع المكان سماه آينشتين " الزمكان" وإن هذا الأخير هو عبارة عن كينونة ديناميكية أو كيان ديناميكي متحرك ، وهنا يبرز لنا مفهوم جديد للزمن يختلف عما لدينا من فهم حدسي له . والحال أن الميكانيك الكمومي يكشف لنا كذلك أن " كل كينونة ديناميكية"، كالحقل الكهرومغناطيسي، هي أكثر تركيباً وتعقيداً من نسيج متصل& ومتداخل أو مندمج& ومتحرك، ولا يمكن وصف تجلياته إلا من خلال قوانين الاحتمالات وينتج عن ذلك أن الزمن، ليس شمولياً وكونياً كما بين لنا آينشتين، فحسب ، بل و كذلك ليس متجها وجهة محددة، ويفقد بنيته الخطية وفق ما جاء في الميكانيك الكمومي أو الكوانتي.&

يقول العالم الفيزيائي الإيطالي كارلو روفيللي أنه مقتنع تماماً أنه ، من أجل التوصل إلى صياغة مفاهيمية للزمانية، للتحول& والتطور ، بصورة تتوافق مع المكيانيك الكمومي أو الكوانتي و النسبية العامة ، أي التي يمكن أن تنشيء لنا نظرية كمومية أو كوانتية للثاقلة&théorie quantique de la gravitation&، فإن أفضل طريق لذلك هو التخلي عن المفهوم الحدسي للزمن، بل وربما إلغاء مفهوم الزمن برمته من أدواتنا النظرية الفيزيائية والرياضياتية& ونعمل كما لو أنه غير موجود مثلما تخلينا عن الأثير، وعن مفهوم التزامنية في النسبية الخاصة. فالتحرر من مفهوم الزمن هو قرار ليس& أكثر راديكالية مما يبدو عليه . فالزمن ليس ضرورياً أو يتعذر الاستغناء عنه في الفيزياء . فما نحسبه أو نقيسه في الحقيقة& والواقع ليس الزمن على الإطلاق بل بضعة متغيرات فيزيائية تتغير مع الوقت ، وليس الزمن الحقيقي ، إن وجد مثل هذا الكيان.

الزمن الحراري&Le Temps Thermique

كيف يمكننا تصور عالم بدون زمن؟ يحتاج الأمر لثورة مفاهيمية وصياغة نظرية ثورية للعالم والفيزياء النظرية لإدراك ذلك، وإلا كيف يمكن أن نصف هذا التدفق& للوقت في حياتنا اليومية وينظمها؟ وإذا لم يكن يدير ويتحكم بالعالم على الصعيد الجوهري، فكيف وفي أية ظروف ينبثق " الزمن" الذي نعرفه؟ الجواب المبدئي يتمثل بتخيل وجود " الزمن الحراري" وهو مصطلح اقترحه سنة 1993 عالم الرياضيات الفرنسي آلان كون&Alain Connes&و كارلو روفيللي&Carlo Rovelli&&. ففي الفيزياء الكلاسيكية هناك وصف للتطور داخل الزمن لعدد متنوع من الأنظمة يمكن حصرها في فئتين أو مجموعتين وهما: المجموعة الميكانيكية والمجموعة الحرارية . في المجموعة الأولى لاتلعب السخونة والحرارة أي دور مهم كما هو الحال في حركة الكواكب أما في المجموعة الثانية فهي لأنظمة تتضمن تبادلات حرارية مهمة وتغيرات في درجات الحرارة مثل شمعة تحترق. وسواء في الميكانيك أو الثرموديناميك يستخدم الفيزيائيون معادلات تتضمن متغير " الزمن" ويدرسون كيف يتأرجح رقاص الساعة وكيف تستهلك شمعة تحترق نفسها على مدى زمني معين وفي الحالتين لدينا معادلات رياضياتية تصف هذا التطور ولكن هل هو نفس الزمن في الحالتين؟ الجواب بالنفي& لوجود اختلافات ملحوظة وملموسة. أهم ما نلمسه هو أن ظواهر المجموعة الأولى قابلة للعكس&réversible& مثلما هي حالة فيلم معروض بالمقلوب أو بالعكس من النهاية للبداية في حين أن ظواهر المجموعة الثانية غير قابلة للعكوسية أو الانعكاس .&&

إن هذا الاختلاف ينطوي على أهمية كبرى . فقد لوحظ أنه يمكن الاستغناء عن " متغير الزمن&&variable temps& t" في معادلات الميكانيك لكن الأمر غير ممكن في معادلات الديناميكا الحرارية أو الثرموديناميك. &ففي هذا الأخيرة لايمكن استبدال الزمن بعملية جمع بين قيم مرصودة& الواحدة بالنسبة للأخرى . وهكذا فإن القانون الثاني للثرموديناميك &الذي ينوه إلى أن أنثروبي نظام ما منعزل لا يتزايد أبداً بمرور الوقت ، وهي معادلة لايمكن تفسيرها من خلال نظام العلاقات ، فالزمن الذي يظهر في المعادلات الثرموديناميكية يبدو أساسياً وضرورياً لوصف العالم الذي نشاهده ونرصده. وبالتالي اقتضى الأمر أن ندخل مفهومين مختلفين للزمن وهما " الزمن الميكانيكي& و الزمن الحراري . وإذا أمكننا التخلي عن " الزمن الميكانيكي"&le temps mécanique&لكي نفهم العالم ، فإن " الزمن الحراري&le temps thermique&يبدو لنا أساسياً وجوهرياً وقد يكون القيمة الفيزيائية الحقيقية التي تشكل أصل فهمنا الحدسي للزمن. فعندما نفكر بالزمن نقرنه بعدد من الخواص التي تعود بالأصل إلى الثرموديناميك ، وبالتالي عندما نبحث عن المفهوم الحدسي للزمن انطلاقاً من نظرية جوهرية تخلو من الزمن، يتعين علينا في هذه الحالة الالتفات نحو الثرموديناميك. فقوانين هذا الأخير ترتبط بحقيقة أننا نجهل آلية التفاصيل لكل جزء من مكونات النظام الذي نشتغل عليه كالغاز والحرارة فهذه الأخيرة على سبيل المثال ناجمة عن تهيج عشوائي للذرات والجزئيات التكوينية وهي تهيجات يستحيل علينا رصدها أو مشاهدتها ومعرفتها بالتفصيل. فجهلنا بالتفاصيل الميكروسكوبية يقودنا إلى وصف الغاز موضوع الدراسة ، على نحو تقريبي& واحتمالي وإن هذا الوصف التقريبي يقود إلى الثرموديناميك. وهذه الفرضية& الراديكالية تعرف بإسم " فرضية الزمن الثرمودينامي&hypothèse du temps thermique" وقد تمت صياغة هذه الفكرة رياضياتياً في إطار الفيزياء الكمومية أو الكوانتية . وهذه الخطوة مستلهمة &من الوصف الاحتمالي لحالة نظام في الفيزياء الستاتيكية الإحصائية .

يتبع