يترنّح لبنان على حافة الهاوية الاقتصادية بسياسة افقار متعمدة ترافقها حملة إعلامية فاقعة تحاول إظهاره كبلدٍ مفلس وسط الأزمات الإقليمية والدولية المتراكمة والمتعاقبة. فيما يحاول المسؤولون اللبنانيون إجراء عملياتهم الإصلاحية الصورية بمبضعٍ لا يطال جيوبهم ولا يوقف الهدر ولا الصفقات، بل يهدد لقمة عيش الفقراء والطبقة الكادحة بإصلاحات عشوائية غير مجدية إلا لاستخدامها كقناع للنزاهة يستخدمه اللصوص المستذئبين في محاولاتهم لاقناع الدول المانحة بعقد مؤتمر سيدر!

والسؤال البديهي الذي يطرح نفسه: من يقف خلف هذه الحملة المستعرة على حاكمية مصرف لبنان وعلى القطاع المصرفي؟ وهل صحيح أنها حملة ممنهجة من الذين يريدون إحكام القبضة على مكامن القوى الاقتصادية في السلطة مستغلين فترة الدلال الممنوحة لهم من الفريق الحاكم في الظل، والمتحكم عبرهم بالقرارات المصيرية في البلد؟

إنها حقا معضلة تواجه شعب لبنان الذي كان ينقصه سقوط القناع عن وجه رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر ليهب منتفضاً بوجه إهانته للبطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير!
فالخطيئة الشنيعة لفظيا وأخلاقيا أدت لتوقيفه دفاعاً عن قدسية البطريرك الراحل ورمزيته بموقعه الديني والوطني، لكن الطامة الكبرى هو أن الشعب كان غافلا عن كيفية وصول هذا الرجل الى منصبه كحامي لحقوق الناس ولقمة عيشهم، بينما هو موظف يقبض معاشا قدره 9000$ أميركي ولا يحضر الى وظيفته!
إنها فعلا مهزلة الشعب الذي يشوط غضبا لاهانة الرمز المقدس او الزعيم ويتغافل أو يتغاضى عن الصفقات والهدر والفساد والسرقات!

ارتفع سعر صفيحة البنزين بشكلٍ سريع واكتفى اللبنانيون بإطلاق النكات ولم يتخذ "الاسمر" موقفاً يُحسب له وبقي الشعب منقسما بين مؤيد لسياسة الضرائب ومعارض لها دفاعا عن العهد.. ورفضاً لسياسته!

ألمح الوزراء لامكانية حسم معاشات التعاقد للعسكريين فتظاهر هؤلاء دون مؤازرة "المعلمين"، وهكذا دواليك تتظاهر كل فئة كعود كبريت منفرد يشتعل وبنتهي بعد كسره!

لقد سقط "الاسمر" سقطة العمر نعم، وتعرّى من مصداقيته أمام الرأي العام بعد انكشاف راتبه وإهماله الوظيفي، نعم، لكن القناع الأكبر هو الذي سقط عن الرأي العام اللبناني المتحامل على بعضه والمتآمر على نفسه ومصالحه! &فهؤلاء كانوا يأتمنون على لقمة عيشهم وحقوقهم رجلاً لا يؤتمن على وظيفته!

والملفت حقاً هي تلك المواقف التي كادت تكون طريفة بوجع سذاجتها، حين برر البعض أن "ما صدر عن رئيس الاتحاد العمالي العام من كلام مهين بحق الرمزية المسيحية لا يتعدى كونه خضة لفظية مدبرة كي تلهي الشعب عن تمرير الموازنة بشروط وزير الخارجية جبران باسيل الذي أصبح بنظر معظم اللبنانيين رئيس الجمهورية في ظل عمه!"

أمام هذا الكم من الأحكام العبثية، لا بد أن نقول لمن استغربوا كلام "الاسمر"، ابحثوا في سجلاته وكيفية وصوله لمنصبه!
ولمن يتحامل على "الاسمر" من مؤيدي التيار "العوني"، راجعوا اعتداء تياركم على بكركي، فالاعتداء اللفظي يبقى أقل إيذاءً من الجسدي!
صحيح أن غلطة الاسمر شنيعة، لكنها أقل بشاعة من اهماله الوظيفي ومن تطنيش المسؤولين عنه، ومن تغافل الشعب عن حقوقه!
ماقاله "الأسمر" لا يُعتفر، لكن الصفقات والسرقات والسمسرات واهمال ثروات البترول والغاز وبيعها خفية عن اللبنانيين وتعمد إفقارهم خطيئة أكبر ايها الشعب المتذاكي!

ما فعله الاسمر مصيبة، لكنه أقل خطراً على لبنان من تغييب دور رئيس الحكومة وصمته عن التجاوزات المستمرة بموافقته_أو بغير علمه!

وها أنتم تتجاهلون الاسفاف السياسي المستمر من قبل بعض النواب والوزراء الذين بنوا مجدهم السياسي بنبش القبور وتهديد أمن اللبنانيين بالفتن، فهل خطر ببالكم أن جريمة "الأسمر" اللفظية تبقى ذات طابع فردي لا جماعي، وهي أقل خطراً على امن لبنان وشعبه من الخطابات الفئوية التي تثير النعرات الطائفية وتوتر الجماعات بنبش أحقاد الماضي الأليم!

لقد استذكر واستنكر الكاردينال البطريرك بشارة الراعي في خطابه الوداعي الشجاع والصادق" الاعتداء الجسدي والمعنوي" الذي تعرّض له البطريرك الراحل "صفير"، فاقتُطعت هذه الفقرة من خطابه عند عرضها على بعض المحطات اللبنانية المحكومة بأزلام نظام الوصاية! أوليس الترهيب الاعلامي بحق اللبنانيين مصيبة تضاهي إهانة رموزهم؟!

والسؤال الأكبر والأهم: لو خُيِّر البطريرك الراحل "صفير" بين محاكمة "بشارة الأسمر" أو نابشي القبور بحثاً عن مناصب؟ من كان ليحاسب بعد أن عمل جاهداً مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط على ترسيخ المصالحة التاريخية في جبل لبنان؟&

ايها اللبنانيون: لقد جمع البطريرك برحيله كل لبنان بوقاره، وبمواقفه الوطنية المتعالية عن صغائر الأمور. فجثمانه المسجّى كان ينبض بمحبة لبنان أكثر من ضمائر بعض حكام هذا الوطن الذين يحاولون امتصاص دماء الشعب وإغراقه في الفقر ولا يخجلون.
أوتظنون حقاً أن كلام "الأسمر" قد أهان المثلث الرحمة؟ أم تراه قد أهان نفسه وأدان كل من تغاضى عن مخالفاته المستمرة حتى انكشافه؟!

طوبى للبطريرك "صفير" المجد في عليائه، بعد أن جمع حوله كل اللبنانيين بخشوع أمام عظمة قامته.. ولا شك أن الرثاء بحقه خطيئة، ولا يليق به، بل يليق بوطن تحكمه زمرة حاقدة تدعي محاربة الفساد وتمارسه، ويسكنه شعب يأتمن اللصوص على مصالحه وثراوته!

أيها اللبنانيون، وسط غفلتكم عن مصائبكم، "صفير" يشفق عليكم في عليائه!