في الزمن الجميل كان الشعراء يتغنون بكل شيء جميل ، ويكتبون أجمل القصائد للتعبير عن جمال الطبيعة ، ويبدعون في وصف الحالات الانسانية بقصائدهم التي كان الملحنون يتلقفونها سراعا ليصوغوا منها أجمل الألحان ، ويقدموها الى أصحاب الحناجر الذهبية لتسجيلها وغنائها . فكانت الصنعة متكاملة مثل صناعة الذهب ، شعرا ولحنا وصوتا . لذلك أصبحت تلك الأغاني القديمة خالدة أبد الدهر. منها على سبيل المثال ما تغنى الشعراء بالورد وجماله .فقد أبدع حضيري أبو عزيز بأغنيته الخالدة &" عمي يا بياع الورد كلي الورد بيش كلي ". وعبد محمد برائعته " وردة سقيتها من دمع الجفون . صارت بالحسن فتنه للعيون . قطعت من غصنها& . ضيعت كل حسنها ". ثم أغنية المطرب الراحل رضا علي : يا ورد الورود يا ورد ... يا حلو الخدود ياورد . ريحتـك فاحــــت ورد . والناس صاحـت ورد . ياورد ياورد . كلك ورد . يــــــــــــا ورد ".

وهكذا أصبح العراقيون هم الوحيدون الذين يسقون ورودهم بدموع جفونهم.

كان الفن في ذلك الزمن عموما له رسالة تهدف الى ترقية الانسان والسمو بأخلاقه ، فكان الشاعر يحترم قراؤه وسامعيه ، والملحن يحترم صنعته ويسهر الليالي ليصوغ لحنا جميلا يلبي أذواق المستمعين ، وكان يختار كالصانع الماهر الصوت المناسب لمن يغني لحنه . فلم ولن يستطيع أحد غير ناظم الغزالي أن يتألق بموال " عيرتني بالشيب وهو وقار ". ولا أحد يستطيع أن يناطح القبانجي في رائعته " صلي وسلم بالحرم ". ولا كانت مائدة نزهت تستطيع أن تبدع مثل وحيدة خليل بأغنية " عليمن يا قلب تعتب عليمن ".

أما شعراء الأغنية فكانوا يتسابقون أيضا لتقديم كل ما يحترم أذواق الناس ، ولا يكتبون شعرا فيه إسفاف ، مثلما نسمع اليوم من كلمات محورها كارت الموبايل . كانت كلماتهم تصاغ من أجمل المعاني . إسمع أحمد رامي يكتب شعرا لأم كلثوم "&هجرتك يمكن أنسى هواك.. وأودع قلبك القاسي& وقلت اقدر فى يوم أسلاك.. وأفضي من الهوى كاسي .لقيت روحي فى عز جفاك.. بافكر فيك وانا ناسي ". فيرد عليه الشاعر العراقي " ما دام الطير مهما يغيب ، بلهفة يرجع لعشه . وما دام الليل مهمال يطول ، لابد ما تجي الغبشه . أظل طول العمر &أهواك.أنسى روحي لو ردت أنساك لابد ما تجي وتضحك فرح دنياي ". وبهذا يستمر الابداع بين أهل الفن من المشرق الى المغرب ، وأذان الناس نظيفة ، لايسمعون نغما نشازا ، ولا كلمة خادشة ، ولا صوتا كنهيق الحمار يجمله الميكرفون.

كانت أم كلثوم تقف ست ساعات على قدميها لتسمع جمهورها ثلاث أغنيات طويلة بليلة واحدة . وكان الغزالي يقف ساعتين على المسرح يطرب أسماع الحاضرين بعشرات الأغاني العراقية الجميلة بين التراث والحداثة . وكان صباح فخري يرقص ساعات مع موسيقى غنائه يطرب سامعيه بالقدود الحلبية . كان الفنان في ذلك الزمن الجميل يحترم مستمعيه ومشاهديه، يطربهم ويحلق بهم الى عنان السماء بكلمات معبرة ولحن جميل وصوت راق . ثم وقعنا في الزمن القبيح . الكلمات أصبحت تعبر عن حال الحشاشين وحاملي السكاكين ، والألحان أغلبها مسروقة من التراث القديم ، أما الأصوات فإن ، أنكر الأصوات لصوت الحمير.

حتى القرآن الكريم ماعدنا نسمعه&بأصوات مبدعي ذلك الزمان من أمثال قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت ، أو الصوت الملائكي للشيخ عبدالباسط عبدالصمد ، أو الصوت الخاشع لمحمد صديق المنشاوي ، ولا صوت المبدع الحاج محمود عبدالوهاب أو الحافظ خليل إسماعيل وهو يدندن بالمقامات العراقية الأصيلة ليرسخ كلمات الله في قلوب المستمعين .

ولذلك تراني دائما أحن الى ذلك الزمن الجميل ، وحسبي الله ونعم الوكيل.