أدت الأحداث المتتالية التي شهدها لبنان في الأشهر الأولى من عام 2005 إلى انقسام حاد بين الأحزاب السياسية، وولد ما عُرف لاحقا بقوى الثامن من آذار من جهة، والرابع عشر من آذار من جهة ثانية.

وإذا كانت قوى الرابع عشر من آذار ضمت أحزاب التقدمي الاشتراكي، وتيار المستقبل والقوات اللبنانية، والكتائب وتنظيمات أخرى، فإن حزب الله شكل العنوان الرئيسي في المعسكر المواجه إلى جانب مجموعة من الأحزاب والتيارات، ولذلك كان الصراع يأخذ بعدا طائفيا على الدوام.

أقرب الى حزب الله

في تلك المرحلة وما تلاها حاول التيار الوطني الحر بزعامة رئيس الجمهورية الحالي، ميشال عون التمايز عن الفريقين، محاولا إظهار نفسه في موقع مستقل ولكن أقرب الى حزب الله، رغم كونه من الحركات الرئيسية التي ساهمت في ولادة قوى الرابع عشر من آذار قبل افتراقه عنها لحسابات تتعلق بالحصص النيابية في ذلك العام.

ولم تغير مرحلة ما بعد حرب تموز في المعادلة شيئا، فمع توقف أصوات المدافع والصواريخ، عادت الجبهة السياسية الى الاشتعال في الداخل مع انقسام أعمق هذه المرة تُرجم باستقالة وزراء الثنائي الشيعي الى جانب ممثلي رئيس الجمهورية، اميل لحود خلفية موضوع المحكمة الدولية.

سقوط تسوية الدوحة

ومع مرور الوقت، لم تنجح المحاولات الداخلية، والمبادرات العربية في إعادة المياه الى مجاريها، حتى انفجرت احداث السابع من أيار التي وضعت اوزارها مع توجه الاطراف الرئيسية الى الدوحة وتوصل الجميع هناك الى اتفاق ينص على انتخاب ميشال سليمان، رئيسا للجمهورية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تمتلك قوى الثامن من آذار الثلث المعطل او الضامن فيها، وتجرى انتخابات نيابية بعد عام واحد (2009) بناء على قانون اتفق عليه الجميع في العاصمة القطرية.

ورغم ان روح مؤتمر الدوحة لم تُعمر طويلا بفعل اسقاط حكومة سعد الحريري في عام 2011، غير ان الصراع طوال الفترة الممتدة بين عامي 2005 مرورا بدخول حزب الله الحرب السورية، ووصولا إلى عام 2016، كان يُنظر اليه على انه صراع سُني-شيعي.

البحث عن "مُواجه"

حزب الله الذي لم يعد تواجده محصورا داخل الأراضي اللبنانية، أدرك ان الخوض في الصراعات الداخلية يشكل خطرا كبيرا على استراتيجيته، فلبنان بلد متنوع والتجارب التاريخية تؤكد بأنه لا يمكن لفئة إنزال ضربة قاضية بفئة أخرى، واستمرار انخراطه في لعبة الكر والفر له عواقب سلبية وتساهم في اضعافه، لذلك كان لا بد لطرف ما أن يأخذ عن الحزب مواجهة خصومه عبر اللعب على ما تحمله الذاكرة والوجدان، فمن جهة يستطيع جذب الشارع الذي يمثله، ويربك خصومه، كما يزيل عن كاهل الحزب الخوض في صراعات غير مفيدة مما يتيح له التفرغ بشكل أكبر لقضاياه.

باسيل الأنسب

ولأن مهمة البحث عن هذا الطرف دونها شروط معينة، كان جبران باسيل، وزير الخارجية الحالي، وزعيم التيار الوطني الحر، الشخص الأنسب، فصهر رئيس الجمهورية يرفع شعارات من شانها دغدغة شعور المسيحيين، وراغب في فتح صفحات الماضي بغية تدعيم شعبيته، ومتحمس لخوض صراعات مع الأطراف المناوئة لحزب الله تحت عنوان استعادة الحقوق، والأهم يعلم الخطوط الحمراء لحزب الله عن ظهر قلب، مع ضمان عدم تجاوزها مع الاحتفاظ ببعض التمايز في التكتيك.

بداية الرحلة

في وجدان البعض بلبنان، ان اتفاق الطائف ساهم في سحب البساط جزئيا من تحت المسيحيين، وتجلى هذا الوضع في قضم جزء من سلطاتهم واعطاءها الى السنة، والدروز، من هنا كانت انطلاقة الوزير باسيل في رحلة استعادة الحقوق، ولعب حزب الله دورا في تزخيم انطلاقته بفعل امتناعه أولا وعدد من القوى عن حضور جلسات انتخاب رئيس للجمهورية بعد انتهاء ولاية ميشال سليمان، مكتفيا بالمطالبة بانتخاب العماد ميشال عون لكونه الأقوى مسيحيا.

التحوّل

وصول عون الى قصر بعبدا بتسوية معينة، مهدت الطريق أكثر امام باسيل، فإندفع في وجه خصوم حزب الله بعد 2005، وبعدما كان التيار الوطني الحر عاجزا عام 2015 عن تسمية قائد للجيش او تعيين مدير عام، أصبح اليوم يضغط على رئيس الحكومة، سعد الحريري لتغيير مدير عام قوى الأمن الداخلي، ولما لا المشاركة في اختيار خلفه، وتفرقت صفوف المستقبليين، فالحريري الذي لا يزال يعيش في زمن التسوية يبتعد شارعه عنه رويدا رويدا، ويُواجه بإمتعاض شخصيات سياسية محسوبة عليه من أدائه، ولم يوفر باسيل، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، فالمناوشات جارية على قدم وساق، وربما تنتقل الى مرحلة المواجهة مع اقتراب موعد تعيين قائد جديد للشرطة القضائية، أما القوات اللبنانية فتواجه حرب الغاء في التعيينات والوظائف.

الوضع السياسي الحالي في لبنان، مكن حزب الله من النأي بنفسه عن الدخول في مواجهات مع خصومه المنشغلين بباسيل، وببعضهم البعض، وخفت صوت المطالبين بنزع سلاحه، فحروب التغريدات على موقع التويتر بين الافرقاء غطت على كل شيء، وبعد أربعة عشر عاما، انتقل الحزب من المواجهة إلى موقع توجيه النصائح للأفرقاء بضرورة تهدئة الأوضاع.