لَم يكُن سياق شرط النشأة الليبرالية كفلسفة سياسية اقتصادية يتمحور حول الفردانية بمدلولها المعاصر، بل كانت بواعث هذه الفلسفة مشدودة نحو تحرير الكائن الإنساني ككل من ربقة النظام الإقطاعي المستبد وسُلطة النَص الكنسي. ذاك العنصر الإنساني الذي سوف يُشكل قاعدة أساس لقيام المشروع الاقتصادي القديم. حيث تزامن مع بزوغ الثورة الصناعية الأولى في أوروبا، الافتقار الشديد الى القوى البشرية كمحرك فاعل يستحيل دونه انبعاث أية صناعة. فالرؤية الليبرالية قبل أن تتبلور في القرن السابع والثامن عشر لتشمل الجوانب الفكرية والاعتقادية للإنسان، كانت ترتكز حول البحث عن مدخل تأسيسي لفكرة الإنسان الذي سوف يقود الاقتصاد لاحقاً. وهو ما تحقق رغم الكثير من التقلبات التي مر بها الفكر الليبرالي بمدلوله الاقتصادي. &

وكان من الصعب للرؤية الليبرالية الاقتصادية حتى النصف الثاني من القرن العشرين، تجسيد نفسها كنظام حيوي عالمي يرتكز على المنفعة ورسملة النشاطات وحرية التبادلات التجارية. غير أن نجاح أمثلة الواقع الاقتصادي في أوروبا الغربية وبعض أجزاء من أمريكا، اعطى إلماعة الى ضرورة الامتثال لهذا النموذج. فاتفاقية نظام التجارة العالمي كصورة معاصرة مثلاً لم تكُن سبباً لبوادر تحقيق هذه الرؤية، بل كانت نتيجة لممارسات فاعلة تجلَت لتوكيد حضور ذلك النموذج الاقتصادي.&

وعندما نتأمل السياق الدولي المعاصر وديناميكية انتظامه والمؤسسات الاقتصادية الفاعلة فيه، سنلاحظ أن المحتوى الليبرالي استطاع إنجاز نقلة ضخمة على المستوى المؤسسي الناظم للعلاقات الاقتصادية. فحتى الدول النامية التي لا تتبنى (علانية) انتهاج الرؤية الليبرالية الاقتصادية، يتبدى في سلوكياتها الاقتصادية تجسيد هذه الرؤية. فالتقيد بالشعارات المنافية للرأسمالية ولليبرالية لا يعني عدم وجود المحتوى السلوكي الاقتصادي، بل أن الانخراط الراهن وفق قانون السوق الدولي المفتوح وقبول التعاقدات العالمية يشيران الى هذا التجسيد الليبرالي المدعوم دولياً. إذ لا سبيل للانعزال عن هذا النموذج، فهو آخذ في النمو والتطور ولا تنسجم صيرورته مع محاولات إيقافه أو التراجع عنه.

ولا غرو في أن تساقط بعض ماكنا نعتبره من المحرمات التجارية كالتعاقدات مع غير المسلمين واستيراد نماذج الترفيه وتسهيل الجمركة التجارية وتمكين المرأة من العمل، ليس إلا دلالات تفصح عن امتثالنا لليبرالية الاقتصادية. وهذا يقودنا إلى تأكيد أن الليبرالية الاقتصادية تُعنى دائماً بتوطيد علاقة المجتمع بالدولة وتحقق حرية الأفراد والجماعات لضمان التعددية الاقتصادية في المجتمع. كما أنها لا تعادي الأديان حقيقة، وذلك إذا ما استحضرنا في فهمها المقاصد الكُبرى للأديان.&

ومع بلوغ الاقتصاد المعاصر برؤيته الليبرالية الى الذروة، لا يزال هناك من يبحث عن بدائل!

وكأن النماذج المنغلقة كانت ستقود الى المستويات الاقتصادية التي بلغناها اليوم. بيد أن الأمر لابد خارج عن إطار البحث المزعوم. فالتيار الاقتصادي جد ساحق وينظر باتجاه المستقبل المفتوح ولا يعنيه أية اعتبارات للعودة. غير أنه في الوقت الراهن تتأكد الحاجة للدفع بمزيد من الانفتاح التجاري وتعميق العلاقات الاقتصادية التي تسهم في استحداث أساليب وممارسات اقتصادية لا نزال متأخرين عنها.