في قاعة الانتظار بمطار ميونيخ، عائدا الى تونس، جلس بجانبي عجوز قصير القامة، مكتئب الملامح. وبعد أن اطلق زفرات تنمّ عن همّ ثقيل، سألني:

-كيف الطقس في تونس؟

-ايّ طقس تقصد؟

اشار الى السماء التي بدت خلف السياج البلوري العريض ملبدة بالغيوم، وقال: الطقس…. الطقس..

-ستعرف ذلك في الطائرة، قلت

فكر قليلا، ثم أضاف:

-يبدو انه متقلب...

-اذا كنت تعلم ذلك فلماذا سألتني؟

ابتسم ابتسامة حزينة:

-الحقيقة اني اردت ان اتحدث معك...

-حول ماذا؟

-حول احوال بلادنا

-وما ادراني بها …

-ما اظن ذلك... قلبي يقول لي انك عارف بها

-احوالها متقلبة مثل طقسها في هذه الايام!

انتشر الغم على ملامحه:

-الله يتسر بلادنا من اعدائها

-ومن هم اعداؤها؟

-اليهود والامريكان

-انت مخطئ على طول الخط

- كيف انا مخطئ ؟

-لان اعداءها الحقيقيون هم ابناؤها!

-ابناؤها ؟ تساءل متعجبا وفزعا في نفس الوقت.

-نعم. ابناؤها. وهم الذين يخربونها يوميا، ويحرضون على العنف، ويقومون باضرابات عشوائية، ويقتلون الجنود ورجال الشرطة، ويرتبكون جرائم ارهابية، ويدمرون الاقتصاد والبنى التحتية، ويبيعون اسرارها للاجانب، ويكومون الفضلات في كل مكان، ويجبرونك على استقبال صباحك بجرعات قوية من الكلام البذيء، ويذهبون الى صلاة الجمعة للهروب من العمل، ويبددون اوقاتهم في ما لا ينفعهم ولا ينفع بلادهم.

عناصر من الشرطة التونسية في أحد المنتجعات لحمايتها من أي اعتداء

&

- يا لطيف. يا لطيف.

-الم اقل الحقيقة ؟

صمت قليلا، ثم قال:

-قد تكون على حق!

بعدها شرع يسرد عليّ نبذة من سيرته ليخبرني أنه جاء الى ميونيخ في مناصف الستينات من القرن الماضي، اي عندما كان في الخامسة والعشرين من عمره. وانه امتهن مهنا كثيرة، وحصل على التقاعد منذ خمسة عشر عاما، لكنه لا يزال يعيش في ميونيخ. وله بنتان وولدان حصلوا على الجنسية الالمانية، وجميعهم يعيشون حياة هانئة وسعيدة. وهو فخور بهم، ولكنه لا يريدهم ان يصبحوا مثل الالمان.

مطار ميونيخ

&

-ولماذا لا تريدهم ان يكونوا مثل الالمان ما داموا قد حصلوا على الجنسية الالمانية ؟

ظهر الارتباك على ملامحه؟ ظل يحدق في وجهي لحين ثم رد قائلا:

-الالمان كفار يا استاذ!

-وهل اذاك كفرهم على مدى السنوات الطويلة التي عشتها بينهم؟

-لا ابدا!

-هل حاولوا ان يفرضوا عليك مسيحيتهم؟

-لا... لا... استغفر الله!

- اذن لماذا لا تريد ان يكون ابناؤك مثل الالمان؟

بدا محرجا الى حد كبير، ورأيت الحيرة ترقص في عينيه الذابلتين مثل فأرة مذعورة:

-على اية حال، اردت أن اقول انه يتوجب عليهم ان يبقوا مسلمين!

-وهل اعلمك احدهم انه سيغير ديانته الاصلية؟

-لا... لا.. اعوذ بالله.. اعوذ بالله!

-لم انت خائف عليهم اذن؟

ظهرت الابتسامة من جديد على شفتيه اليابستين:

-والله دخّلتْني في بعضي يا استاذ... الله يهديك!

-ولماذا لم تستقر في تونس بعد ان تقاعدت؟

-والله حبيت نستقر لكن ….

ظل صامتا

-لكن ماذا؟

-الحقيقة لم اقدر!

-كيف لم تقدر ؟

-نحن التوانسة مازلنا متخلفين برشه برشه!

-لذلك انت تفضل ان تنهي حياتك بين الالمان الكفار... اليس كذلك؟

-الالمان كفار لكنهم متقدمون ويحبون بلادهم ويحترمون الوقت.

-كيف اذن تقول انك لا تريد ان يكون ابناؤك مثلهم؟

-كيف ما قلت لك يا استاذ. لقد أدخلتني في بعضي ولم اعد اعرف ماذا أقول!