لاأدري لماذا لا أستسيغ تلقيب دومينيك دوفيليبان، برئيس الوزراء الفرنسي الأسبق رغم أنه شغل هذا المنصب عن جدارة. ربما لأنني لا أحبذ أن يرتبط اسمه في ذاكرتي بالسياسة. تلك اللعبة اللعينة التي تتحيّن الفرص لتسرق مسحات الثقافة والشعر والفلسفة من ذلك الوجه الثقافي المعروف. رغم أن شهرته في الخارج ارتبطت بالسياسة وقد اكتسبها بعد الخطاب الذي ألقاه في مجلس الأمن الدولي شهر آذار- مارس من عام 2003 مدافعا عن رفض بلاده الحرب على العراق، ومفندا الحجج التي استند إليها كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق لضرب العراق.

سببٌ آخر يجعلني أرفض ربط صورة دوفيليبان بالسياسة اللعينة. إنها قضية (كليرستريم) التي لاحقه بها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. حيث اتهمه بمحاولة التشهير به خلال الحملة الانتخابية عام 2007 التي تنافسا خلالها من أجل خلافة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك. غير أن المتابع للشأن السياسي الفرنسي يعلم جيدا بأن هذه المحاكمة سياسية بحتة، وتدخل في إطار الصراع الدائر بين الديغوليين وزعيمهم جاك شيراك وبين اليمينيين الجدد الذين يتزعمهم ساركو. وبالرغم من أن القضاء الفرنسي برّأ دوفيليبان قبل أسابيع إلا أنه وعلى الأرجح فإن الصراع سيستمر، مادام دومينيك يطمح للترشح للرئاسيات الفرنسية عام 2012.

الوجه السياسي لدومينيك هو الجزء الظاهر فقط من جبل الجليد العائم. أما الجزء الذي يحمل الألم والأمل فهو المخفي عن الإعلام، أو هكذا يرادُ له أن يكون. دوفيليبان وخلال العامين الذيْن تولى فيهما منصب وزير الخارجية الفرنسية قبل أن يصبح وزيرا أولا، قام بنحو مئة وثلاثين جولة إلى الخارج. لكنه لم يقطع صلته بعالم الشعر والأدب. وكان يجد الوقت الكافي لكتابة الأبيات الشعرية في الجزء الخلفي للمروحية العسكرية التي كانت تقلّه إلى مواقع قادة المتمردين في ساحل العاج حيث كان يقود المفاوضات لحل الصراع الدائر على السلطة آنذاك. ربما يكون قد استلهم من تلك النزاعات كتابة مجموعته الشعرية (الأرض الملتهبة) التي ترجمها صديقه الشاعر أدونيس إلى العربية.

علاقة دوفيليبان بالعرب والمسلمين متجذرة فهو ابن مدينة الرباط المغربية التي ولد فيها عام 1953 وهو صديق للشاعر الكبير أدونيس والشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، و باحث مجتهد في تاريخ الحضارة الإسلامية وروادها الذين لا ينكر فضلهم على النهضة التي شهدتها أوروبا بعد عصور الظلام.

دوفيليبان غالبا ما يستشهد في محاضراته التي يلقيها بموقف محمود درويش من الشعر الذي يجب أن يكون في خدمة الشعوب حسب رأيه لوضع حد لمعاناتها. فالشعر نقيضٌ للكراهية، ومن خلاله كافح درويش من أجل القضية الفلسطينية. وبالشعر والكتابة يكافح دوفيليبان من أجل ترسيخ الحوار بين الثقافات والتقريب بين الشعوب وهذا ماذهب إليه في الكثير من أعماله التي تناول فيها المناقشات التي دارت حول الحضارة الغربية في العقود الثلاثة الماضية والجدل الذي احتدم بين العقلانيين واللاعقلايين في عصر النهضة. كما دافع عن نظرية حوار الحضارات والتقريب بين العالم العربي ndash;الإسلامي، وبين العالم الأوروبي ndash; الأمريكي. وخلص إلى أن الحضارة الغربية لم تكن لتقوم لولا أعمال ابن رشد والفلاسفة المسلمين. ملحا على ضرورة الاعتراف بالآخر واحترام هويته وثقافته.

لكن كتابه (1) ثناءٌ على سارقي النار- Eloge des Voleurs de feu كان له الأثر الكبير والمساحة الأكبر لدى النقاد والمتابعين حيث استعرض دوفيليبان في أكثر من ثمانمئة صفحة، أعمال عدد من الشعراء والفلاسفة الفرنسيين الذين غيّروا تاريخ فرنسا والعالم في عصر التنوير أمثال، آرثور رامبو، شارل بودلير، بول فيرلان. ولم يكن يسرد قصصهم من أجل السرد، بل كان متفهما لسلوكاتهم التي غلبت عليها حياة الصعلكة حد الجنون وهذا ما حصل لجيرار دونيرفال الذي قضى معظم حياته بين المصحّات العقلية لينتحر في نهاية المطاف. (أنظر كتابات الأستاذ هاشم صالح عن دوفيليبان)

من النقاد من اعتبر بأن دوفيليبان كان يستحضر حياة شقيقه الذي مات في عزّ الشباب والذي كان يكبره بسنتين. - يستذكر دوفيليبان في الكتاب، اللحظات التي قضاها مع شقيقه وهو في السادسة عشرة متسكعين في شوارع نيويورك- وربما كان مصابا بعلة شعراء عصر التنوير، أي العجز عن التأقلم مع الحياة بشكل طبيعي. ربما يكون هذا الرأي صحيحا! ومن يقرأ مذكرات دوفيليبان والتي تحمل عنوان (مذكرات الأرق) سيقترب أكثر من فلسفته وسر معاناته.

في رحلة استكشافه للعالمين العربي والإسلامي أضفى دوفيليبان بحضوره المميز في معرض الكتاب الذي أقيم في الدوحة روحا من الشاعرية على الحدث. وكم كانت فرحة زوار المعرض كبيرة حينما وقّع لهم على إصدارته. وبانجليزية ذات لكنة - فغانسية- استطاع أن يقرّب الأنجلوساكسون من الأدب الفرنسي أو ربما سدّ بعض الفجوات بين القراء الفرانكفونيين وبين اللغة الإنجليزية. وإذا كانت هذه الفكرة من بين الأهداف التي سطرتها وزارة الثقافة القطرية باستضافتها فرنسا ضيف شرف لمعرض الدوحة للكتاب، فقد تحقق منها الكثير.

(1) يقصد دوفيلبان بسارقي النار: الشعراء. حيث تقول الأسطورة اليونانية بروميثيوس أن شخصا سرق النار من الآلهة وقدمها للبشر فقامت بمعاقبته. في إشارة إلى انتهاك المحرمات. وحسب دوفيليبان فإن الشعراء ينتهكون المحرمات في أعمالهم الأدبية.