أين: فى مصر.

ومن: الرئيس.

ربنا يطيل فى عمر الرئيس المصرى: محمد حسنى مبارك، ويعيده بالسلامة لأرض الوطن. ولكن ألا تشعرون معى بأن الأمر هكذا قد أصبح مثيرًا للقلق إلى حد زائد عن اللزوم؟ الرئيس فى ألمانيا، مريض ويحتاج لعملية جراحية. شيئ طبيعى ومتوقع عند البشر أجمعين. من منا ليس معرضاً للمرض، أو للعلاج فى مصر، أو حتى فى ألمانيا. ولكنى شخصيًا حين أمرض كطبيب أعيل هم المرضى المسؤولين منى، وحين يحتاج منى المرض العلاج، أو أن أسافر للخارج للعلاج، أجدنى أحول مرضاى لطبيب آخر، سبق لي واخترته ليقوم بتلك المهمة حتى أعود. أعرف إنها عملية شاقة من الناحية النفسية أن أجد لنفسى quot;بديلquot; يحل محلي، وكأنني لن أعود من جديد. ولكن المسؤولية تجاه مرضاى تحتم علىَّ القيام بهذا العمل، حتى ولو لم أكن أرغب فى القيام به.

فما بالك بالرئيس!

ألا تشعرون معى بأن quot;مصرquot; صارت تسير quot;بالقُدرةquot; هذه الأيام؟ وكأنها (مولد وصاحبه غايب). شيخ الأزهر رحل! إنتقل الشيخ طنطاوى إلى رحمة الله أثناء تواجده بالعاصمة السعودية مشاركاً فى توزيع جوائز الملك فيصل، حين داهمته أزمة قلبية. لم تعلن مصر الحداد، وإن كان ينبغى لها فى رأيى أن تعلنه لرحيل شيخ الأزهر. وطالعتنا الصحف المصرية بعنوان : quot;ارتباك فى عزاء شيخ الأزهرquot; فرئيس الوزراء، المنوط بسلطة رئيس الجمهورية، جلس بجوار رئيس الوزراء السابق quot;الجنزورىquot; ولم يتبادلا بالطبع أى كلام.

الحزب الوطنى عقد صفقة مع حزب الوفد، أن يضمن له 23 مقعداً فى الانتخابات التشريعية القادمة، من مقاعد quot;الجماعة المحظورةquot;، لقاء عدم تعاون حزب الوفد مع البرادعى وبرنامجه. خبر صحفى. تعليمات quot;علياquot; بمنع سفر الفريق القومى الأوليمبى للقدس لملاقاة نظيره الفلسطينى لمنعه من الحصول على تأشيرة إسرائيلية للعب هناك. خبر آخر. كنت أعتقد إنه فى غياب الرئيس وفى الحالة الشاذة التى تعيشها quot;مصرquot; بين دول العالم، ولما يقرب من ثلاثين عاماً، بغياب منصب نائب الرئيس، أن يقوم رئيس مجلس الشعب بأعمال رئيس الجمهورية حتى عودته، أو حتى ظهور نتيجة الإنتخابات الرئاسية بعد وفاته. ولكننا هذه المرة، نواجه استثناءً للقاعدة الدستورية، فى إنابة شخص رئيس الوزراء بالقيام بهذه المهمة الخطيرة.

ثم تعالوا لنناقش موضوع الرئاسة. وسط ذلك الحراك السياسى غير المسبوق، بدخول الدكتور البرادعى للحلبة السياسية، إعلانه عن رغبته فى تغيير الدستور المصرى، المتناقضة بعض مواده مع البعض الآخر، وخاصة بند المواطنة، (المادة 40) وتساوى الحقوق والواجبات، مع بند إسلامية الدولة وتشريعها (المادة 2)، على حد قول البرادعى شخصياً، و(المادة 76) الشهيرة التى تحول أن يترشح مواطن مستقل لرئاسة الجمهورية، بصورة مطلقة، وبأنه فى حالة تغيير الدستور مستعداً للترشح للرئاسة إذا ما طلب منه الشعب ذلك. وسط كل هذا لا نسمع لرئيس الجمهورية تعقيباً، لاسلباً ولا إيجاباً، بموافقته أو برفضه تغيير الدستور، أو لترشيح الدكتور البرادعى كمستقل، حتى يذهب لألمانيا فيعلن قبل العملية الجراحية مباشرة، بأن على البرادعى الترشح لرئاسة الجمهورية من خلال أحد الأحزاب لو أراد. أى أن الرئيس قد أعلن بهذا التصريح الخطير، الذى بشأنه أن يغير من تاريخ مصر برمته، قبل الخوض فى عملية جراحية خطيرة، تستدعى من سيادته السفر للخارج للقيام بها، وهو فى هذا العمر المتقدم، أطال الله سنين عمره.

ولكن ألم يكن شعب مصر الأصيل، الذى زاد تعداده عن الثمانين مليوناً، يستحق أكثر من تصيح عابر لجريدة ألمانية، فى شأن بهذا القدر من الخطورة!

ثم ماذا يبتغى الرئيس مبارك أكثر مما أوتى بعد كل هذه السنوات التى قضاها رئيساً لمصر؟ لقد تولى الرئيس مبارك (وهو من مواليد 4 مايو 1928) الحكم من بعد اغتيال الرئيس السادات فى أكتوبر 1981، أى فترة رئاسة تمتد لقرابة ثلاثين عاماً. هل يبتغى الرئيس فترة إضافية لتحقيق شيئ ما لم تتح له كل تلك السنوات الطوال الفرصة لتحقيقه؟ وهل يعقل أحد أن ما لم يستطع الرئيس تحقيقه حينما تولى الرئاسة، وكان عمره آنذاك ثلاث وخمسين عاماً، أى فى العقد السادس، وما لم يحققه فى العقد السابع، أو حتى الثامن، أن يحققه فى العقد التاسع من عمره، وهو على مشارف نهاية عامه الثالث والثمانين؟ وهل ينظر الرئيس لمصر فيرى فيها دولة مستقرة سياسياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وأمنياً، فيرجئ اتخاذ أمر تولى رئاسة دولة بهذا القدر من الخطورة، للصدفة وحدها، تدير عجلتها الدوارة، مقادير أمة على هذا القدر من الارتباك، تدور وتدور ومن فوقها كرة (الروليت) تدور معها حتى تقف على رقم ما، بمحض الصدفة، فيفوز من يفوز ويخسر من يخسر.

اليوم وقد تماثل السيد الرئيس للشفاء، وعجل الله بأمر عودته للوطن سالماً معافى، ألا نهيب به إلا أن ينظر فى أمر رئاسة الدولة المصرية بعين الجدة، بحيث يقوم سيادته وهو ما يزال قادر على إدارة شؤون البلد، بتقنين أمر بهذا الدرجة العالية من الخطورة، فى أمة يتقاتل مواطنوه اليوم بسبب بناء سور لكنيسة بمطروح، أو تواجد مومس مسلمة أو مسيحية برفقة شبان مسيحيين أو مسلمين! فى بلد يختلف اليوم نخبته فيما لو كان يحق للمرأة أن تكون قاضية بغض النظر عن دينها لأنها تحبل وتلد وتجيئها الدورة الشهرية، ومن ثم لا يحق لها الولاية على الرجال! فى بلد يتناقش فيه الأئمة فيما لو كان لاعبو الكرة يحرم أم يحل لهم السجود بعد إحراز هدف! فى بلد يمثل فيه 88 عضواً فى مجلس الشعب جماعة quot;محظورةquot;، بحكم القانون، ويقبض ويفرج يومياً على المئات منهم لانتمائهم السياسى والدينى! فى بلد يمتهن فيه المواطن ويعتقل ويغتاب بسبب معارضته للنظام الحاكم، أو لسبب ديانته، أو لأفكاره، بدون الرجوع لمواد الدستور وبنود القانون! فى بلد تتساقط فيه الأبنية كالذباب، وتحترق المنشآت والقطارات، ويعيش الملايين من أبنائه بالعشوائيات التى تبنى وترتفع فى كل بقعة به، بدون رقابة من الجهات المختصة، وتحت سمع وبصر الجهات المختصة، بسبب غياب ردع القانون!

وكيف إذن؟

يا سيادة الرئيس. أهيب بسيادتكم وأنتم بصدد إنهاء فترة حكمكم الخامسة، أن تقوم سيادتكم بالاستعانة بكبار مفكرى وعلماء مصر، بالداخل وبالخارج، لتغيير الدستور المصرى، ليصبح دستوراً مدنياً حديثاً، يتواءم مع دخول مصر القرن الواحد والعشرين، ويعد البلاد لاستقبال مستقبل مشرق، يسود فيه الحق والعدل والمساواة، وما يتتبعهم من أمن ورخاء البلد العظيم quot;مصرquot;، أول من علم الإنسانية معنى الحضارة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة. فيكون ذلك الإنجاز وساماً عالياً غالياً، يسجله لكم تاريخ مصر الممتد لأكثر من سبعة آلاف عام، فيكتب إسمكم فوق صفحاته بحروف من ذهب.