مشكلة المواطنة التي تعاني منها مصر وأغلب دول الشرق الكبير، هي بالأساس مشكلة حضارية، فالمواطنة ليست مجرد مفهوم أو مبدأ أخلاقي، يدفع نحو العدالة والمساواة.. هي نوعية علاقات قد تولدت في رحم مجتمع الصناعة، حيث البشر أفراد لا قبائل أو عائلات أو طوائف، وحيث انتماء الفرد يكون وفقاً لمصالحه الممتدة بشبكة علاقات المجتمع الصناعي، والتي تغطي كل مساحة الوطن.. فشعوب تلك الدول لم ترتق حضارياً بعد إلى مستوى حضارة عصر الصناعة، الذي نمت في حضنه وكنتيجة له، ما نعرفه الآن بالدولة الحديثة.. فأغلب هذه الشعوب مازالت في مرحلة القبيلة والعشيرة والأسرة، وبعضها تطور جزئياً إلى مستوى الانتماء الديني العابر للقوميات والأوطان، فكان هذا النزوع عامل إرباك لها، بما سببه من تصادم بين مكوناتها، وتصادم مع باقي العالم خاصة المتحضر منه.. مع ذلك نستطيع أن نرصد أن تقدم بعض هذه الشعوب الجزئي أو النسبي حضارياً، لم يصاحبه تطور مماثل وبذات القدر، باتجاه تأسيس دولة حديثة، أو على الأقل شاب تقدمها العيوب والاختلالات، التي جعلت مسيرتها تتخبط وتتراجع، في الوقت الذي تفرض عليها الظروف والحقائق المادية، أن تسرع الخطى باتجاه الحداثة.. خير مثال نضربه هنا هو مصر، التي من المفترض أن تكون برصيدها وتاريخها الحضاري سبَّاقة ورائدة لشعوب المنطقة في هذا المجال.
نترك في سطورنا هذه البنية التحتية الحضارية اللازمة لتأسيس دولة حديثة، لنقارب البنية الفوقية المتمثلة في الثقافة الضرورية لتأسيس دولة حديثة، أو دولة المواطنة.. يلزمنا هنا أن نفرق بين مفهومين، ربما لا يوافقنا كثيرون على ما سوف نحمِّله لكل اصطلاح منهما في معالجتنا هذه، لكننا نستأذن القارئ والناقد معاً، أن نستخدم كلا المفهومين بمحموليهما المفترضين في هذه المقاربة (على الأقل).. نقصد مفهومي quot;الدولة القوميةquot; وquot;الدولة الوطنيةquot;.
quot;الدولة القوميةquot; هي دولة منسوبة إلى quot;قومquot; محددين، قد يجمعهم الجنس أو الدين، وفيها يصير كل غريب أو دخيل على هؤلاء القوم، بمثابة ضيف مرحب به أو غير مرحب، وقد يعد الغريب عن quot;القومquot; استثناء يطلق عليه تعبير quot;أقليةquot;، وغالباً ما يُعد عقبة في سبيل وحدة الأمة، وشرخاً في بنيان quot;الدولة القوميةquot;.. هنا قد يكون من المطلوب محاصرة هذه quot;الأقليةquot;، وقد يكون مطلوباً إذابتها ومحو هويتها، لكي تندمج في القوم ودولتهم، حتى تستكمل الدولة قوتها وتماسكها، كما حدث ويحدث للأكراد والأمازيغ والفور وغيرهم، في ظل مفهوم القومية العربية.. في سياق هذا المفهوم للدولة نستطيع أن نتفهم مشكلة quot;البدونquot; في دول الخليج العربي، فرغم أن وجود quot;وطنquot; للإنسان هو حق أصيل من حقوقه، إلا أن الدولة في مفهوم هذه الإمارات والسلطنات الخليجية هي quot;دولة قومquot; أو قبائل محددة، ولا حق لآخرين فيها، وأقصى ما يستطيعون الحصول عليه محدود بقدر الكرم والإحسان، الذي يتفضل به أصحاب الدولة الأصلاء!!
quot;الدولة الوطنيةquot; مختلفة تماماً عن سابقتها، فهي دولة تنتسب للوطن.. للكيان الجغرافي والديموغرافي معاً، فامتداد المكان الخالي وحده لا يشكل وطناً، وإنما مجرد مساحة بلا معنى سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، إلا على سبيل الإمكان وليس الواقع الحاضر، لكن المكان المأهول هو ما يشكل بمن يقطنه وطناً.. هكذا تكون الدولة دولة جميع من استقروا داخل حدود الوطن في الماضي والحاضر، ومن سوف يتخذونه وطناً في المستقبل، عن طريق الهجرة النهائية من أوطانهم، أو عن طريق الميلاد فيه.. لا تمييز هنا بين المواطنين على أي أساس من أسس التقسيم المتعارف عليها، كما يستوى الوافد المستوطن، بمن تمتد جذوره في الوطن إلى آلاف مضت من السنين.. وهذا ما نراه في تشريعات الدول الغربية، التي تعطي حق الحصول على الجنسية لمواليدها أياً كانت جنسية الأبوين، ولمن يمضي في البلاد عدداً معيناً من السنوات، باعتباره قد صار بموجبها ضمن الساكنين في الوطن والمشاركين في جهود إعماره، شأنه شأن باقي المواطنين الذين يستمد منهم الوطن كينونته، وقد نتعجب إذ نعرف أن الطفل الأمريكي المولود لسفير لوطنه خارج الأراضي الأمريكية حيث يعمل والده، لا يحق له الترشح لرئاسة الدولة، لأن مسقط رأسه لم يكن الأرض الأمريكية، رغم أنه أمريكي الجنسية وابن أمريكي صميم.. هنا نرصد التركيز على أن معيار الانتماء هو للوطن، وليس لسلالة أو طائفة أو دين!!
قد تبدو quot;الدولة الوطنيةquot; هكذا للبعض هشة وضعيفة التماسك، مقارنة quot;بالدولة القوميةquot;، التي يجمع بين مواطنيها الرابطة القومية أياً كان نوعها.. فهل يعني هذا أن quot;الدولة القوميةquot; بهذا المفهوم، أقوى وأفضل من الوطنية؟
لا نرى الأمر كذلك على الإطلاق، فمفهوم quot;الدولة القوميةquot; تامة النقاء مجرد خرافة نظرية، ولا ينطبق إلا على التجمعات القبلية، التي هي خارج نطاق بحثنا حول الدولة الحديثة.. كما أن وضع الأقليات الدوني وغير المستقر داخلها، يفوق في تأثيره السلبي على تماسك الدولة، تلك القوة المتخيلة الناتجة عن تماسك الرابطة بين quot;قومquot; الأغلبية.. لكن الأهم أنه في عصرنا الحالي، عصر ترابط وتداخل الشعوب ومصالحها، وعصر حرية الانتقال للأفراد والسلع ورؤوس الأموال، تصبح مسألة quot;الدولة القوميةquot; المغلقة مسألة متحفية تاريخية، أكثر منها حقيقة معاشة وصالحة للعصر.
نأتي لقضية التماسك داخل quot;الدولة الوطنيةquot;، والتي تقوم على كل من التعدد كطبيعة أصيلة فيها، وعلى وحدة أو توحد ضروري لقيام دولة قوية، ومجتمع سليم قادر على الفاعلية والنمو.. يبدو الأمر للوهلة الأولى وكأننا أمام معضلة، حيث التناقض بين التعدد والوحدة!!
نحن في الحقيقة ننشد الآن مطلبين رئيسيين، أولهما هو توحد المواطنين داخل دولتهم، والثاني هو تحويل التعدد ليكون قوة مضافة، بدلاً من أن يكون سلبي التأثير.. الحقيقة هي أن الوضع المصري الحالي هو النموذج الأفضل لفشل شعب يمتلك مقومات quot;الدولة الوطنيةquot;، وذلك لافتقاده لثقافة تكفل تحقيق هذين المطلبين.
يحتاج كل شعب إلى التوحد، ليس توحداً كاملاً شاملاً في جميع التفصيلات والمجالات، وإنما إلى التوافق على quot;حد أدنىquot;، هو اللازم لتأمين قاعدة تتأسس عليها مختلف صنوف علاقات هذا الشعب، وتحدد الخطوط العريضة لتوجهاته وسعيه لترتيب وإدارة كافة علاقاته الداخلية والخارجية، وتحقيق أهدافه الوطنية.. بدون هذا التوافق على quot;الحد الأدنىquot;، سنجد التخبط والفشل والعشوائية التي يرزح فيها الشعب المصري الآن.. أما محاولة التوسع في التوحد، خارج حدود ما عرفناه quot;بحد أدنىquot;، فهو توسع مجاني، لا يصب في مصلحة الوطن والمواطنين، وإنما يكون خصماً من مصالحهم، لحساب هيمنة حاكم أو هيمنة أغلبية أو أقلية مسيطرة.. محاولة تجاوز quot;الحد الأدنىquot; من التوحد نراها الآن في مصر، في محاولة فرض زي على كل النساء باعتباره الزي الشرعي، وفي التضييق على الأقباط والبهائيين مثلاً، من قبل بعض من ينصبون أنفسهم صوت وضمير أغلبية مسلمة، ونراها داخل محاولات أغلبية فرعية في الدين الواحد، كالتضييق على الشيعة من قبل السُنَّة، والتضييق على الطوائف المسيحية صغيرة العدد من قبل الطائفة الأرثوذكسية، مع الفارق طبعاً في طبيعة هذا التضييق وفقاً لتفاوت إمكانيات الأغلبية النسبية، لكن المنهج واحد، سواء كان التضييق بالقتل والحرق كما تفعل الغوغاء مع الأقباط والبهائيين، أو كان مجرد الهجاء والوصم بالهرطقة كما يحدث من الأرثوذكس ضد باقي الطوائف المسيحية، باعتباره أقصى ما تسمح به إمكانياتهم في هذه المرحلة.
نحتاج إذن في مصر إلى التوحد في حد أدنى غائب حتى الآن.. يمتد غياب التوافق حتى إلى هوية المواطن المصري، ما بين الانتماء الديني والعروبة والفرعونية والمصرية الحديثة المعاصرة، وإلى موقفنا من العالم وشعوب ودول الجوار، إن كانت شقيقة أو صديقة أو عدوة.. نختلف على الأساس الذي نبني عليه مواقفنا من شعوب العالم، إن كان على أساس تبادل المصالح، أو على أساس عداوات الماضي وقضاياه، التي مازالت حية وساخنة في عقولنا نحن فقط.. نختلف حول أولوياتنا الخاصة الداخلية، إن كانت مرتبطة بمشاكل حياتنا اليومية، أو تتركز حول جسد المرأة وكيفية حمايته من الذئاب البشرية في كل ركن وشارع ومجال.. الأمثلة أكثر من أن تحصى لفشلنا في الاتفاق على quot;حد أدنىquot; جوهري ولا غنى عنه لنكون أمة وليس مجرد تجمع عشوائي تتصادم مكوناته.
أما عن موقفنا من التعددية، فربما هو الأكثر استعصاء على التعديل والتطوير، فثقافتنا تعتمد أساسياً على تقديس العادات والتقاليد، وبالتالي فهي تعمد للقولبة والتنميط، ليكون كل إنسان نسخة مكررة من الآخر، وإلا عُد المختلف فاسداً ومارقاً... إلخ.. هكذا ننظر للتعدد كوصمة ونقطة ضعف نحاول قدر الجهد تحاشيها والقضاء عليها، رغم أن الخطر الحقيقي على أي أمة في عصرنا هو العكس تماماً، فالتوحد الكامل في الشخصيات والرؤى هو عقم، يؤدي بأي أمة مهما كان مستوى حضارتها إلى الجمود والانكفاء على الذات، خاصة في عصر أهم ثابت فيه هو التغير الدائم، ذلك التغير الذي ينتجه التنوع، عبر الجدل والتفاعل المجتمعي الصحي.. لننظر إلى القوة والحيوية التي تتمتع بها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تتفرد عن جميع الأمم بتنوعها الهائل في الأجناس والأصول والثقافات، حيث تحول التنوع إلى ثروة، أو صار نعمة بدلاً من أن يكون نقمة.
هل تستطيع مصر أن تجد quot;الحدد الأدنىquot; الذي تتفق عليه الأمة كلها، لتبدأ سعياً نحو حداثة تأخرنا طويلاً في طلبها، وهل تستطيع عقول وقلوب المصريين أن تتفهم وتستوعب أهمية التنوع والتعدد، كقانون طبيعي، وكميزة كبرى يتوقف عليها حيوية المجتمع وإمكانيات تطوره؟!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]