دابت قوى السلطة في تركيا على التاكيد بانهم يسيرون بالبلاد بخطى وثيقة باتجاه واحة الديمقراطية الواسعة التي تسمح لهم برفع الحاجز النفسي لتواصلهم الجغرافي مع الاتحاد الاوربي و منظومته الغربية التي جعلت من معايير حقوق الانسان و حرية الصحافة مؤشرات و ايضا معرقلات اساسية لحسم فكرة اعطاء الضوء الاخضر لانضمام تركيا الى جغرافيتهم تلك.&

الا إن هذه التاكيدات سرعان ما تتبدد مع كل تحول انتخابي يحصل في هذا البلد المهم لنا جميعا. فكل ما يجري في تركيا يلقي بظلاله بالضرورة على مستقبل الاحداث في دول الجوار و بالذات المضطربة منذ سنوات. حيث يمكن لتركيا، صاحبة الدور و النفوذ المهم في كثير من الملفات هناك، إن تكون اللاعب الاقليمي الذي يحدد وجهة المستقبل لهذا الجوار الذي تحول الى ساحة واسعة لتصفية الحسابات في لعبة تنافس اقليمي و دولي حرجة للغاية.&

تشير الصحافة التركية الى إن هنالك اليوم توجه محموم من قبل البعض باتجاه مصادرة الاصوات النقدية المعارضة للتوجهات الحكومية، وهو ما قاد الى حملة منظمة بشكل شرس ضد العديد من الكتاب الاتراك و الصحف المعروفة بتاريخها و بقدرتها في المساهمة بتشكيل الراي العام التركي حيال القضايا المصيرية ومن بينها الانتخابات. وهو ما دفع البعض الى التاكيد على ان اردوغان منذ إن انتخب رئيسا في اغسطس – اب 2014 قام برفع العشرات من الدعاوي القضائية ضد ساسة، صحفيين و كتاب بحجة ما اسماه اهانات موجهة ضده او ضد افراد عائلته وحزبه. ومن بين هذه التهم المثيرة للسخرية تهمة القي صاحبها في السجن فقط لانه ذكر في حسابه على التويتر تغريدة ناقدة لقيادات حزب العدالة و التنمية.&

في هذا الصدد كتب السيد مراد يتكن مقالا مهما في صحيفة حرييت ديلي نيوز بتاريخ 2 سبتمبر تحدث فيه عن الرؤية الحكومية لموضوع النقد الذي تمارسه القنوات التركية المختلفة وكيف إن الردود الحزبية للعدالة و التنمية تقود الى فقدان الثقة بموضوع البنية الديمقراطية المفترضة للنظام السياسي. فقد اشار الى إن الاتراك صدموا بتاريخ الاول من سبتمبر عندما قامت صحيفة Sozcu الناقدة لحزب العدالة و التنمية بوضع عنوان مثير على صفحتها الافتتاحية اسمته " صحيفتتنا صامتة، لذا فان تركيا ايضا صامتة ". وقد تضمنت الصفحة مواقع كتاب الاعمدة اليومية التي تركت فارغة. وقد جاء ذلك كردة فعل من قبل هذه الصحيفة على القضايا التي رفعت ضدها في المحاكم التركية من قبل اردوغان الذي اتهمها بانها تهينه و تتعرض لافراد عائلته.&

في حين تعرضت صحيفة حرييت Hurriyet الى هجمات متعاقبة و تهديدات طالت العديد من رموزها. وهو ما دفع القائمين عليها الى الرد على الاتهامات الموجهة لهم بانهم يدعمون و يرجون اعلاميا لخطاب مساند لحزب العمال الكردستاني المحظور حيث جاء في هذا الرد " إن تركيا تمر بأوقات عصيبة. نحن نتألم لاننا يوميا نفقد العديد من الابرياء. لقد بدا العنف يضرب مجددا في الشوارع و يطرق الابواب و يذكرنا بأيام الماضي السوداء. للاسف إن لغة الانقسام و الاستهداف و التشجيع على العنف قد بدات بالتحكم بالوطن ".&

النظر الى هذه الكلمات يوحي بمقدار الخوف الذي يخيم على المشهد الثقافي و السياسي في تركيا خلال هذه الفترة من الزمن. حيث يبدو من خلالها بان الالية التي انتجت الفوضى في سوريا و العراق هي ذاتها التي يلمح لها الكتاب الاتراك بحذر من إن تكون مؤثرة في صناعة تركيا غير مستقرة مستقبلا. لذا هم يؤكدون على إن اسس الحكم الديمقراطي تستوجب الركون الى لغة العقل و عدم التخوين و الاستهداف الهوياتي. وكل ذلك لا يمكن له إن يتحقق دون المرور عبر البوابة الواسعة للاعلام المستقل الذي يجب إن يتمتع بقيم اخلاقية مناسبة تجعل منه غذاء غير فاسد تقدم وجباته الصحية لعامة الناس في كل الاوقات، لتساعدهم في تحقيق الرؤية السليمة لاثر قراراتهم السياسية و الانتخابية على المستقبل.&

بغير ذلك فان المُناخ الثقافي سياخذ بالتدهور بعد إن تصيبه لوثة التهديد السلطوي بحجة انه يشكل خطر على توجهات البلد و امنه القومي. وهو فعليا ما حصل وفق اشارة صحيفة زمان بنسختها العربية التي ذكرت خبرا مفاده قيام احد الصحفيين الموالين لاردوغان بتهديد زميل له بالقتل فقط لانه يتبنى اتجاها معارضا لحزب العدالة و التنمية و يكتب بطريقة لا تتوافق و توجهات هذا الحزب. حيث اتهم بانه من الموالين لحزب العمال الكردستاني، في اشارة اعتبرها العديد من المراقبين بانها تشكل ضوء اخضر لاغتيال هذا الصحفي احمد حقان او تعرضه للاعتقال بحسب تهمة يمكن تسميتها بالخيانة الثقافية التي تشكل علامة فارقة في مسار الحكم في تركيا لكل من لا يسير وفق هوى الحزب الحاكم او يعارض القادة المهيمنين عل قراراته.&

لم يكن غريبا في ظل هذا المشهد إن توجه لصاحب هذه السطور تهمة مماثلة من قبل أحد الاكاديمين الاتراك في رده على احد مقالاتنا السابقة التي خصصت لمناقشة فكرة انهيار التسامح في تركيا محليا و اقليميا. حيث عدت افكاره بحسب وجهة نظر السيد سمير صالحة تزييفا للحقائق و افتراء على الوضع التركي تتطلب معها الامور توبيخ صحيفة هافينغتون بوست التي نشرت المقال. وهو في هذا السياق و للاسف يخرج عن القاعدة الاكاديمية في تقبل الحوار و الاختلاف في وجهات النظر و يلحق كل من يعارض سياسات حزب العدالة و التنمية بالارهاب الذي يمثله حزب العمال الكردستاني حيث يقول في مقاله المنشور في تركيا برس تحت عنوان التطاول على تركيا " ان المشكلة قد تكون للوهلة الأولى مع الكاتب الذي اعتمد على تحليلات غير موثقة مفبركة شخصية تلتقي كلها عند مادة الافتراء والتجني على الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وعلى تركيا وسياستها في منع مشروع تفتيت الدول ارضاء لبعض الجماعات الإرهابية الكردية وربط سياستها بتنظيم داعش الإرهابي حيث ينقل كلاما ويبني عليه استنتاجات ترضي إيران والنظام السوري والتنظيمات الإرهابية ".وصفة معتادة للتهديد و الابتزاز الذي يمارس بحق الجميع في داخل تركيا و خارجها بهدف ارضاخ الاخر للمشروع الاخواني.&

نجح السيد صالحة في حرماني من النشر في الهافينغتون التي اثبتت انها رهينة لحزب العدالة و التنمية لا اكثر. كما نجح اخرون في حرمان الكتاب الاتراك من إن يمارسوا دورهم في الحياة الثقافية و السياسية. ولكن هي ليست نهاية الحكاية طالما إن هنالك ارادة للوقوف بوجه هذه السياسات و التضامن مع الاتراك غير الابهين بكل اشكال الابتزاز التي تمارس بحقهم. خاصة في زمن بات سهلا فيه افتضاح هذه الحقائق، وذلك على الرغم من وجود جيش من العاملين في الفضاء الالكتروني تم توظيفهم لمصلحة حزب العدالة و التنمية بهدف ملأ منصات التواصل الاجتماعي بمفردات الابتزاز و الاقصاء و الترهيب بحق المعارضين و الناقدين لسياسات هذا الحزب و الحاقهم بالارهاب كي تسهل عملية تصفيتهم بعد خلق حالة من التشويه التي تسمح بالحيلولة دون استمرار التعاطف الشعبي معهم.&

في هذا الصدد كشفت صحيفة زمان العربية إن هنالك اليوم اكثر من 6000 موظف شاب تابعين لحزب العدالة و التنمية تقتصر وظيفتهم على متابعة الفضاء الرقمي و محاولة الهيمنة عليه باي شكل من الاشكال.

تركيا الجديدة في ظل هذه التطورات تواجه اختبارا صعبا سيرسم ملامح السنوات القادمة بطريقة قد تفضي الى الحاق مزيد من التشويه لصورتها التي لا يريد البعض لها الا إن تكون عنيفة – دموية – طائفية و ايضا اخوانية متطرفة !. بالمقابل لا نريد كعراقيين الا إن نرى تركيا متسامحة و فاعلة بطريقة ايجابية في قضايا المنطقة، وهي امنية قد تقود اصحابها الى إن يُتهموا بالتآمر على تركيا و اهانة شعبها.

اكاديمي عراقي&

[email protected]