&
حينما قال التراجيدي الاغريقي سوفوكليس في مسرحية " اوديب ملكا " بانْ ليس هناك من شرٍّ أكثر إيلاما وخوفا &من الفوضى وأعقبها بصرخته المعروفة " واحسرتاه " &لكنه من حسن حظ هذا الكاتب الفذّ &انه لم يدرك هذا الزمان الذي خلق لنا الفوضى الخلاّقة التي أهداها إلينا اليانكي &باعتبارها مشروعا للبناء المستقبلي ، فلو عاصرَنا بوقتنا البذيء هذا لقال فيها ان كل هجاء وقذع الدنيا وكوميدياه السوداء لاتفي ما تتّصف به بلاد القهرين في السنوات الثلاث عشرة التي مرّت علينا منذ الغزو الكولونيالي في العام / 2003 حتى وقتنا الحاضر
فمن حقبة الدكتاتورية الرهيبة التي أطيح بها من قبل التحالف الاميركي وأذرعه &بعد ان كمدت على صدورنا طوال خمس وثلاثين سنة كلّها حروب وحصار شامل ومجاعة واستهتار بحياة الانسان وتمزيق حريته وخنق أنفاسه لكنها كانت أهون بكثير مما يجري الان حيث اللاقانون وشريعة الغاب وتحكّم السراق وهول اعداد الضحايا والموت بكلّ تجلّياته لاجل ان يحيا السفلة والاوغاد واللصوص والمليشيات والدواعش في هذه البقعة العريقة الموغلة في الاصالة والتاريخ المتأصل في جذور أرضهِ الملأى بالحضارات والرقيّ والازدهار السالف&
ففي زمان الدكتاتورية كان الظلم عاما شاملا والقتل يتساوى فيه كل الشعب ، والجوع يحفر أثره في بطون عموم الناس وخنق الحريات لايميز بين فرد واخر ؛ فالجميع صم بكم عمي في زمن الدكتاتورية لكننا في زمن الفوضى يتفاقم عواء ونباح وهدير رعود مخيفة وأهوال مفجعة تفزع الأسماع وعيون تتربص بك وتلاحقك أينما وليت وجهك لتوقع بك اما قتلا بكاتم وقد تكون محظوظا ولم تصبك لو مرت الطلقة النارية على شفا ومضة من قلبك او رأسك او خطفا لتوضع في حقيبة سيارة وتتكوّم فيها فزعا مثل اية أضحية مأخوذة من مسلخ&
وكلما اسمع بكلمة الفوضى والفوضوية أصاب بالدوار والهلع نتيجة مانلاقيه الان في بلادنا الكسيحة من القانون المغيّب والعقاب والثواب الضائع وفقدان الحقوق وسطوة القوة الغاشمة وغير الغاشمة ولاتدري أين تذهب لو أغمط حقك وسلبت أموالك وأهينت كرامتك وأسيئ لك ظلما وبهتانا وكراهيةً او انتزع منك بيتك وغدوت نازحا مهجّرا مطرودا من فئة جاهلة كل ذلك بسبب الفوضى السائدة حتى بتّ اكره اي مصطلح يشير الى الفوضى بما في ذلك فوضوية باكونين الداعية الى السواسية بين البشر ونبذ الدولة والتقسيم الطبقي وإشاعة القيم العليا للفن وجعل الحياة أزاهير ومتاحف وخلق لكل ماهو ممتع ليؤنس البشر وصناعة الجمال بلا حكومات متسلطة كي نصل الى مجتمع افلاطونيّ فاضل&
كرهت ميكيافيلي ايضا وكتابه &لانه يعتبر ان النظام السامي العادل المنصف هو وليد الفوضى والخراب فلم تعد تروقني سفسطات المفكرين والفلاسفة وتخريجاتهم الخادعة بان الفوضى هي مبعث ان يكون المجتمع سويّا رائقا وها اني اعيش وسط فوضى لاحدود لها من مبتكرات وتنظيرات اولاد وبنات العم سام من امثال روبرت ستالون /مدير مركز واشنطن لسياسات الشرق الادنى وكونداليزا رايس / وزيرة خارجية جورج بوش وتوماس بارنيت / المحاضر في وزارة الدفاع &البنتاغون &والذي سمّى الدول المارقة الدكتاتورية ب &" دول الثقب " ومنها العراق باعتبارها مبعث الإرهاب والاضطهاد والكراهية وكلّ أمرٍ شائن تشبيها لها بثقب الاوزون الخطير على البشرية وسمّى اميركا وحلفاءها ب " دول القلب " باعتبارها هي الراحمة والعطوفة &. وهذه التنظيرات والتقسيمات كلّها دجلٌ وخديعة وضحك على ذقون المسحوقين &
كيف بكيان مهدّم مهزوز الأسس &مثل العراق وبقية دول المصاب الاليم لفواجع الربيع العربي انهارت بكاملها على رؤوس الأشهاد ان تنبعث منها ملاعب وترصف شوارعها بهندسة رائقة وترتسم امام الأنظار لوحات وأضواء باهرة تبهج العيون والنفوس ، هل رأيتم كذبا وتضليلاً ومراوغة وميلا عن الواقع اكثر من هذا الإيهام والتعمية ؟؟ &
هل نحن في غفلة عن رؤية هذه الأنقاض والخرائب والوعث والغبراء ليسحرنا المنظّرون كذبا وتضليلا كما سحرَنا مضللو الدين بجنات تجري من تحتها الأنهار الفائضة بعسل الكلام والخمرة المسكّرة للخيال ليس الاّ &؟ !!
سحقا لمخادعي السياسة الماكرة ومموهي الحقائق الماثلة امامنا فلم تعد تنطلي علينا انبعاثات كاذبة وظهور مخلّص ومنقذ ؛ فلا فينيق سيخرج وينتفض من الرماد ولا ضوء سينبعث في نهاية النفق ؛ انما هذا الضوء الذي نراه في أوهامنا ماهو الاّ نار حارقة مبعثها من جهنم الحمراء لتزيدنا اكتواء ولسعات وحرق وشواء&
وبدلا من ان ننتظر حلولا منهم تأتينا بظرف مغلق مختوم بالشمع الأحمر لكن راحوا يدفعون بالمشكلات تلو المشكلات حتى غرقت البلاد بفوضاهم وارتباكاتهم السياسية بدءا من الحاكم الاميركي الأرعن والمندوب اللاسامي بريمر حاكم وادي الرافدين بعد التغيير ورفيقه زلماي خليل زاده في ترسيخ أسلوب المحاصصة الطائفية مما اشاع الفساد بكل انواعه واغرق البلاد بالمشاكل الجمّة حتى انسحابهم الصوري في العام /2011 بلا أيّ إعمار او تهدئة والبقاء على سفارتهم الاخطبوطية الملأى بآلاف الموظفين الذين يرسمون سياسة العراق الهوجاء مما خلق احتلالا دبلوماسيا جديدا غير مألوف وهذه كلها من ابتكارات الفوضى الخلاقة للعهر السياسي اليانكوي المضلل
نحن هنا نعيش هذه الحالة من السعير والبؤس البالغ الأذى فلا توهمونا بترهاتكم وتلعبون بعقولنا بسفسطائياتكم البذيئة وتنظيراتكم الواهنة وكل ادّعاء بان تلك الفوضى خلاّقة او بنّاءة هي من قبيل الأضاليل الماكرة والتحايل ، انها باختصار شديد لاتعدو كونها مدمّرة ومخرّبة وهالكة لتمرير أزمات وتدويرها علينا كي نكون ضحايا تجارب فئران السياسة الحقيرة في مختبرات العقل الكولونيالي الخبيث والحكومات الظالمة القاسية ضد مواطنيها مع ان تلك الحكومات الظالمة تلك التي حكمتْـنا قبلا &تكون افضل من الفوضى كثيرا . وقبل قرون عديدة &قال القديس الكاثوليكي أوغسطين في اعترافاته : " انّ الانظمة مهما اشتدّت في ظلمها تكون أهون بكثيرٍ من الفوضى "
واذا كانت لعنة الفراعنة قد لاحقت مصر وماحولها فان العراق قد اصيب بلعنات لاتعد ولاتحصى والاّ ماذا نفسر هذه الطامات الكبرى من أحابيل اليانكي الغازي وأذياله الحاكمين لنا والذين يذعنون لأسيادهم من اول لمسة الريموت كونترول ويحركون بيادقهم الموجودة في العراق من أراذل الاثنيـين وسفاسف القبليـين وامراء الحروب ناهيك عن تدخل الجوار وغير الجوار الطامع بمصائرنا بإشارةٍ صغيرة من أصبع أولياء نعمتهم الأعراب والأغراب وتأتينا الرياح السموم من كل حدب وصوب والتيارات الطائفية الكريهة من كل جانب وكأننا اقترفنا كل آثام العالم فلا معين ولا مساند يقف الى جانبنا حتى صرنا جذاما وجربا نسبّب العدوى لكل من اقترب منا&
وطلع علينا مؤخرا مصطلح التخريب البنّاء وبدأ المحللون السياسيون في المعاهد الاميركية بتسويقه والتشدق به عسى ان يكون تجربة مختبرية فأرية على الشعوب المقهورة المستباحة المبتلية بالدكتاتوريات مثلما حصل في بلادي العراق وسوريا وليبيا الرازحة تحت انظمة حكم واحدية فانتقلنا من جمهوريات الخوف الى جمهوريات الفوضى والمفاسد حيث لادولة تردع ولاقانون يمنع فأضحت مرتعا للمليشيات التي تصنع قانونها بنفسها وفقا لمصالحها وأجنداتها ؛ تابعة لهذا الطرف المنتفع او تلك الدولة الطامعة مما شكّلت هذه الهياكل والتشكيلات غير القانونية &تدمير هيكل الدولة الحامي للمواطنة تماما وخاصةً ( الجيش والدرك والقضاء ) وهم أساس ترسيخ الأمن في البلدان وإحلال الفوضى محلها لغاية في نفس يعاقبة كثيرين وليس يعقوبا واحدا&
واذا كانت تلك الفوضى الخلاّقة توصف بانها حالة سياسية او انسانية ستأتي أكلها المثمر وتغدو مريحة لاحقا كما ينظّر متحذلقو اليانكي وصانعو الازمات غير اننا لم نلمس الاّ وقودها وجمراتها الحارقة وهي تشتعل باجسادنا وممتلكاتنا واهلينا وهم انفسهم من يغذيها بالوقود ويزيد من لهبها واشتعالها وكل مايقال عن اعادة تشكيل النظام وترتيبه ولمّ شتات الفوضى ماهو الاّ زيف وخديعة ووهم لاينطلي علينا نحن المكتوون بنارها&
فاذا كانت تلك الاكاذيب قد تم تمريرها على ذوي التنظير الهشّ ومحدودي الافق السياسي وربما المنتفعين من فتات اميركا الغازية وتبرير احتلالها وتسميته بالتحرير والإنقاذ فان ماجرى ويجري الان يفنّد تماما تلك السفسطة والتنظير الاخرق والتبريرات الواهية فليس في الافق وضع افضل قادم بل بالعكس انما هناك من الرزايا والكوارث المقبلة مما تشيب له رؤوس الفتية اليافعين والصغار وليس بعيدا تلك الاعوام القليلة التي مرّت من تزايد عمليات التهجير والنزوح والارهاب الداعشي وطغيان الكراهية المذهبية والعرقية وتفشي الاوبئة الغريبة الناتجة من الاسلحة المحرّمة وتفاقم الجرائم المنظمة والاضطرابات الداخلية والبطالة الشاسعة وهلاك الشباب بالمخدرات وغيرها الكثير من السفاسف والمنغصات التي يصعب حصرها كلها هنا بمقالة قصيرة
وكل ماقيل عن عملية التحول الديمقراطي الذي يتمخضّ من الفوضى وحلحلة الاوضاع ونقلها من مرحلة الهرج والمرج والغرائبية والانتقال الى حالة افضل لايعدو كونه مرسوما في الخيال الاميركي المخادع وشبيها لما يتخيله الخيال الاثني من وجود مخلّص يعيد الامور الى نصابها بعد لأيٍّ طويل وقد رأينا بأمّ أعيننا كيف تم تشويه وتلطيخ الالق الديمقراطي عندنا في العراق حينما تم تقسيم الشعب الى مذهبيات دينية وفروع عرقية وجئ بالمحاصصة والاقتسام للنفوذ وتفتيت اللحمة الوطنية لزيادة أثر الفوضى وتمديدها وتغذيتها بالاحتراب الداخلي وتمزيق النسيج الوطني وبعث "الأنا " العقائدية وحقن العِرق القومي بالمنشطات وترسيخ ماسميَ بالديمقراطية التوافقية لترفع فأسها لتجزئة البلاد وتقسيمه وفق الاجندات المرسومة لها وصولا الى تفتيت البلاد&
تلك هي اذاً طرائق صناعة الفوضى ومؤدّاها قبل كل شيء هو التدخل في شؤون منطقة الشرق الاوسط بالذات وتغيير خارطته الجغرافية والسكانية واعادة ترتيبها بالشكل الذي يخدم مراميها واجنداتها المقبلة ولو على حساب مصائر الشعوب القاطنة فيه مهما ابتلوا بالكوارث والتهجير والانقسام والتحول الديموغرافي للسكان ومحاولة ايجاد تراكيب سكانية ضعيفة من خلال التقسيم العرقي والاثني لسهولة السيطرة عليها والتحكّم بها وتشكيلها جغرافيا وسكانيّا من خلال التدخل المباشر في شأنها بدعوى الاصلاح وتثبيت دعائم المدنية والطرق الديمقراطية المزعومة ظاهرا بينما الباطن هو اشعال الحروب ووضع ستراتيجية تفتيت وزعزعة الكيانات وبعثرة السكان وتشتيتهم نزحا او تهجيرا بطريقة الارغام او قتلا بكل الوسائل الممكنة ولو كانت وسخة واجرامية وسافلة فلا مجال هناك للرحمة والعطف والخلق الانساني النبيل&
تأرجحنا حتى تصدّعت رؤوسنا بين جهة الفوضى المسماة بالخلاّقة وجهة فوضى الانظمة البذيئة المارقة التي جنّنت شعوبها وأذاقته عنوةً علقم الحياة المُرّة ورمته في شِباك الانفلات والخرق الفاضح وامتهان الكرامة وصار صيدا سهلا للعابثين والمارقين وكم كان شاعرنا اليمانيّ عبد الله البردوني مصيبا حين قال : &
أجـبْ يا منادي ولـو بسخـريّـة الابـتسـام
تُرى كلّ فوضى انتهت&
&فكم عمر فوضى النظام&
حتما ستكون طويلة كطول معاناتنا وآلامنا ولن تنتهي الاّ بعد لأيٍّ بعيد جدا فما بقي من العمر إلاّ أقلّه ولا أظنّ انّ بشائر انفراج ستتراءى امامنا على المدى القصير&
&

&