عبثاً نكتب في الإفلاس السياسي دون أن نعرّفه ونعرف متى وكيف يفلس السياسي.

الساسة الذين يفلسون هم الذين لا يعرفون ماهية السياسة، ولا عجب في ذلك فمعطم العاملين في الحقل السياسي لا يعلمون ماهية السياسة حيث هم كانوا في صغرهم غالباً قد امتهنوا العمل السياسي كتجارة ووسيلة للترزّق وتحقيق الذات البورجوازية. ساسة قليلون جداً هم الذين يدركون أن السياسة إنما هي أدب الصراع الطبقي أو البنية الفوقية لبنية تحتية هي الصراع الطبقي. وكيلا يفلس السياسي يتوجب عليه أن يظل شريكاً حيّاً في الصراع الطبقي وهو ما يستلزم الوعي التام بالعملية الإقتصادية بأدق تفاصيلها وكيف يتقرر نصيب كل طبقة أو شريحة في المجتمع من مجمل الإنتاج الوطني. نعم، الإقتصاد علم واسع ومعقد ولا بد أن تكون مثله بنيته الفوقية وهي السياسة علماً واسعاً ومعقداً كذلك، ولذلك تجد اليوم معظم الساسة يفلسون خاصة وأن الأنظمة الإقتصادية المعلومة في تاريخ البشرية قد انهارت تماماً وغدا المعلوم من علم الإقتصاد النزر العسير وليس اليسير.

غالبية السياسيين اليوم ما زالوا يخطبون خطاب الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عندما كان العالم منقسماً إلى ثلاثة عوالم متصارعة، العالم الرأسمالي الإمبريالي والعالم الإشتراكي والعالم الثالث أو عدم الانحياز. يخطبون نفس الخطاب القديم دون تردد أو تراجع حتى وبعد أن يعترفوا بجهلهم المطبق في علم الاقتصاد!! كيف لمحارب أن يطلق النيران دون توقف وهو لا يعلم علامَ يحارب ولأي جهة هو يحارب ويطلق النار!؟ ذلكم هم المفلسون سياسياً. إنهارت العوالم الثلاث وهي اليوم ليست إلا أثراً بعد عين وهؤلاء المحاربون من أجل الحرب فقط لا يعلمون عن ذلك سوى انهيار العالم الإشتراكي وقد أعلن قادته انهياره ولولا ذلك ما علموا، وكيف لهم أن يعلموا وهم باعترافهم أميّون في علم الإقتصاد وفي علم التطور الاجتماعي!؟ ومن الغريب في هذا السياق هو أن الشيوعيين وحدهم الذين تخلوا تماماً عن خطابهم الشيوعي وانقلبوا ليخطبوا خطاب العالمين الآخرَين اللذين أبناؤهما حافظوا على نفس الخطاب، خطاب الانتصار للرأسمالية في العالم الأول كالزعم بأن الرأسمالية تجدد ذاتها، وخطاب التحرر الوطني في العالم الثالث بادعاء أن الإستعمار لم ينتهِ بعد. تخلى الشيوعيون عن خطابهم اللينيني لأن حكام الكرملين وأولهم السكير العربيد بوريس يلتسن (Boris Yetsin) أعلنوا رسمياً انهيار مشروع لينين في الثورة الاشتراكية العالمية، أما العالمان الآخران، الأول والثالث فلم يُعلن عن انهيارهما ولذلك ما زال ابناؤهما يخطبون ذات الخطاب منذ نهاية الحرب العالمية 1945 ؛ بهذه الخطابات يتجسد الإفلاس السياسي بصورة صارخة. تخلى الشيوعيون وحدهم عن خطابهم اللينيني بالرغم من أن جذور مشروع لينين ما زالت عميقة في الأرض وليس هناك قوة في العالم يمكنها أن تقتلع هذه الجذور، ولم يتخلَ بالمقابل أبناء العالمين الأول والثالث عن خطابيهما بالرغم من أن الرأسمالية الإمبريالية قد انتهى عمرها وانقضى أجلها قبل أكثر من أربعة عقود وتبعاً لذلك لا يكون خطاب التحرر الوطني ذا معنى، إنه الإفلاس بعينه. إشكال الإفلاس السياسي يتأسس على الجهل بالعملية الإفتصادية وعدم قراءة إعلان رامبوييه (Declaration of Rambouillet) بالوعي الإقتصادي العميق.

ما الذي استوجب أول اجتماع القمة للخمسة الأغنياء الكبار (G 5) في باريس في قلعة رامبوييه في السادس عشر من نوفمبر 1975!؟ من لم يسمع إنذارات علماء الاقتصاد في أميركا ووزير الخزانة أيضاً آنذاك القائلة بانهيار النظام الرأسمالي، فليقرأ إعلان رامبوييه بالدقة اللازمة ليتأكد من صحة تلك الإنذارات.

قرر الخمسة الأغنياء الكبار، الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا واليابان، سحب عملاتهم من التدول في أسواق الصرف لحمايتها من مفاجآت المضاربة. والحقيقة هي سحبها من التداول الحر وليس من المفاجآت فقيمة الدولار كانت قد انخفضت في عامي 1972 و 73 بنسبىة 30% واستمرار تداوله الحر في أسواق الصرف من المرجح أن يحط من قيمته بنسبة مماثلة أو ربما أكثر ويؤدي بالتالي إلى سقوط الدولة العظمى، أميركا. الهروب من التداول الحر لا يعني سوى أن هذه الدول لم تعد تنتج الغطاء الكافي لعملاتها أي البضائع ومنها الذهب. ولذلك فرضت الدول الخمسة على صندوق النقد الدولي قاعدة غريبة على نظام النقد الدولي وهو أن الدولة نفسها هي التي تحدد قيمة عملتها وليس السوق، الأمر الذي يعني رسمياً أن يشتري العالم النقد يالبضاعة، أي نقل القيمة من البضاعة إلى النقود وهو ما يخالف الدور الطبيعي للنقد في الدورة الإقتصادية، لكن تعاضد الدول الخمسة الغنية في سلب البضاعة حديّتها في القيمة إنعكس وبالاً على قوى الانتاج. مثل ذلك القرار المخالف لكل الأصول حكم على أن الدول الرأسمالية الخمسة الكبرى عادت دولاً مالية وليست رأسمالية، عادن تملك نقوداً ولا تملك بضائع.

ما هو قاطع في هذا السياق هو أن هذه المراكز الرأسمالية الكلاسيكية كانت قد قررت الإستغناء عن إنتاج البضاعة التي هي وحدها تجارة الرأسماليين، فالرأسمالية هي حصراً إنتاج البضاعة. كان تخلي الرأسماليين عن نظام الإنتاج الرأسمالي، إنتاج البضاعة، الذي يخلق لهم كل يوم أموالاً إضافية جديدة، ليس خياراً بل كان أمراً حازباً لازباً بعد انفكاك الدول الاطراف عن المراكز الرأسمالية واستقلالها ولم تعد مصرفاً لفائض الإنتاج في المركز.

لا يمكن الحديث عن إمبريالية فيما بعد السبعينيات وكان ستالين قد أكد في العام 1952 أن النظام الامبريالي سينهار في وقت قريب. بل إن قراءتنا العلمية الدقيقة للتاريخ تؤكد أن الدول الرأسمالية ومنذ العام 1921 لم تمارس السياسات الإستعمارية القمعية الجائرة. في مارس آذار 1919 أعلن لينين الثورة الاشتراكية العالمية والتي هدفها المباشر الرئيس هو تفكيك النظام الرأسمالي في العالم ومساعدة البروليتاريا في العالم على الاستيلاء على السلطة. ولذلك جيّشت أربع عشرة دولة رأسمالية تسعة عشر جيشاً كاملة العديد والعدد ودخلت روسيا لتهزم الشيوعيين وتقضي على ثورتهم غير أن البلاشفة وقد التف حولهم شعوب روسيا تمكنوا من هزيمة قوى التدخل وانتصار الثورة الاشتراكية. الدول الرأسمالية وقد تحققت من أن العدو بات على الأبواب تخلت نهائياً عن السياسات الاستعمارية التقليدية الجائرة واستبدلتها بسياسة مقاومة الشيوعية والفرق كبير ونوعي بين السياستين.

الساسة المفلسون حقاً من وطنيين وقوميين وشيوعيين سابقاُ لا يجدون ما يغطون به إفلاسهم سوى الادعاء الغبي الأبله بأن الإحتلال الأميركي للعراق وتفتيت الدولة العراقية، دولة صدام (2003)، هو السبب الوحيد لكل ذلك الإنحطاط والتحلل الفريدين في التاريخ اللذين يعاني منهما العراق اليوم، مبرئين بذلك دولة عصابة البعث التكريتي ودولة ولي الفقيه في إيران من أي دور لهما في ذلك، لكأن السفن الأميركية حملت الدواعش من شواطئ الولايات الاميركية ولم تحمل جنودا يحاربون لتحرير العراق من صدام وطغمته الدموية وانسحبوا من العراق في العام 2011 دون أن يخلّفوا وراءهم على االأرض العراقية غير شعب العراق.

ليس عيباً شائناً أن يجهل الوطنيون والقوميون قوانين الإقتصاد والتطور الإجتماعي فدعاواهم بمختلف أجناسها وتفرعاتها تقوم أصلاً على افتراض خصوصية الوطن وعزلته التامة عن سائر بلدان العالم ؛ لكنه عيب شائن جداً يلحق بالشيوعيين خصوصاً أولئك الذين لم يتخلوا عن اتصافهم بالشيوعية. فأول حروف الشيوعية يشير إلى أن العالم وحدة واحدة غير قابلة للتجزئة والانفصال. فكيف بإمكان هؤلاء القوم أن يقيموا العدالة والديوقراطية والتعددية في وطنهم الخاص والمعزول عن العالم بغض النظر عن أن هذه الأهداف إنما هي دعاوى بورجوازية كاذبة وملفقة.

ليس هذا هو دلالة الإفلاس الوحيدة لدى المتصفين يالشيوعية زوراً. فدعوى "الشيوعيين" السوريين واللبنانيين بأنهم يواجهون مشروعاً "صهيو أميركي" هي دعوى كاذبة لا تستر إفلاس هؤلاء الشيوعيين سابقاً. أقصى ما ترمي إليه الصهيونية هو السيطرة التامة على فلسطين مع السماح لتجمعات سكانية فلسطينية في التواجد في مناطق محصورة في الضفة الغربية ؛ لكن مشروعها الصهيوني هذا يلقى معارضة شديدة من قبل الولايات المتحدة الأميركية بدءاً بالرئيس بوش الأب الذي سحب اسحق شامير من أنفه إلى مؤتمر مدريد، ثم الرئيس كلنتون الذي اعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية وزار ياسر عرفات في غزة، وتهدده نتنياهو بأن سيحرقه في بيته الأبيض، ثم بوش الإبن وهو أول رئيس أمريكي يعترف بدولة فلسطينية قابلة للحياة كما أنه أول رئيس أميركي يشجب ويدين الإرث الاستعماري للولايات المتحدة كما خطب بالجنود في قاعدة ويست بوينت (West Point) في ضواحي نيويورك 2003 وصولاً إلى الرئيس اليساري أوباما. حقاً قيل.." أن الوطنية هي الملجأ الأخير للأوغاد".

في العراق ينحون باللائمة على الإحتلال الأميركي لما وصل إليه العراق اليوم من تحارب وتحلل لم تشهد مثلهما بلاد أخرى عبر التاريخ. يزعم هؤلاء الأوغاد بأن أميركا لم تأتِ إلى العراق لتحرره من عصابة البعث الدموية بل جاءت لتنهب البترول العراقي؛ ولم يكفوا عن مثل هذا الكذب المفضوح عندما زار نائب الرئيس دك شيني (Dick Cheney) السعودية بعد احتلال العراق بأيام قليلة يطلب من الملك عبدالله زيادة الإنتاج من البترول كي تهبط أسعاره لأن فاتورة النفط أخذت تثقل ميزان المدفوعات الأميركي، وترافق ذلك مع صور صفوف المركبات الطويلة تصطف لتأخذ دورها على محطات الوقود، وتنقل محطات التلفزيون شتائم سائقي المركبات على بوش واحتلاله العراق مما تسبب في الحد من استيراد الكفاية من المحروقات. هذه الوقائع لم تضع حداً لأكاذيب المفلسين سياسياً إلى أن خرج الأمريكان من العراق دون أن يأخذوا برميلاً من النفط أو دولاراً واحداً وقد أكد بول بريمر (Paul Bremer) الحاكم العسكري للعراق أن المبدأ الأول لحكمه في العراق كان إبعاد اليد الأميركية عن المال العراقي.

بعد أن بدا لهؤلاء أن دعاواهم عن الاحتلال الأميركي الاستعماري للعراق دعاوى فاشلة مفضوحة انقلبوا يلومون أمريكا بإبادة العراقيين وتدمير البنى التحتية وحل الجيش العراقي. هذا كله دعاوى كاذبة وما يثير الإحتقار لهؤلاء الأوغاد هو أن السبب وراء هذه الأباطيل ليست المشاعر الوطنية الصادقة بل العكس هو الصحيح، إذ لا يجد الأوغاد ما يسترون به إفلاسهم السياسي سوى تحميل الغير قصور الذات.

لأول مرة في تاريخ العراق يمارس العراقيون تحت سلطة الإحتلال حقهم في إنتخاب ممثليهم في البرلمان لكن العسكري الأمريكي لا يستطيع أن يطلب من العراقي الشيعي أن ينتخب غير الشيعي والسني غير السني والكردي غير الكردي. خرج الأمريكان نهائياً من العراق وتركوا الشيعة يثأرون لأنفسهم من السنة الذين يردون على الثأر بالثأر والكرد يغتنمون الفرصة ليغتنوا.

ليس ما يؤكد أفشال العراقيين وإفلاس ساستهم مثل حكومة الإحتلال الأميركي حكومة بريمر وقد كانت أفضل حكومة عرفها العراق في تاريخة الطويل. كان أول رئيس في العراق يضم في وزارته ممثلاً للحزب الشيوعي الأمر الذي كان قد رفضه عبد الكريم قاسم.

جميع السياسيين الذين لم يدركوا بعد أن النظام الرأسمالي الإمبريالي قد انهار نهائياً واندثر في سبعينيات القرن الماضي هم قطعاً مفلسون عليهم أن يغوروا في غياهب التاريخ.

&