قد يكون المؤرّخ البريطاني إريك.ج.هوبسافم على حقّ في أطروحته التي فيها يقول بإنّ القرن العشرين بدأ عام 1914،أي مع بداية الحرب الكونيّة الأولى،وآنتهى عام 1991 بآنهيار المعسكر الاشيوعي بزعامة ما كان يسمّى بالإتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين.أمّا السّنوات التي سبقت ميلاده،وتلك التي أعقبت موته،فهي لا تعدو أن تكون العَسْوَ الذي يتبقّى من الشّمعة عند آنطفائها.وإذا ما كانت القرون السّابقة قد شهدت ميلاد العديد من اليطوبيّات،لعلّ أشهرها جميعا تلك التي آبتكرها البريطاني توماس مور في القرن السادس عشر،وتلك التي ولّدها عصر الأنوار،ثمّ الثورة الفرنسيّة،فإنّ القرن العشرين يبدو عقب رحيله،وكأنه هشّم من خلال ألأحداث والعواصف السياسية والإجتماعيّة التي وسَمتْه،ومن خلال الحروب والمجازر التي طبعته،كلّ الآمال والأحلام لدى الشعوب والأمم.فالشيوعيّة التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر،والتي بدت لرجال السياسة والفكر والفلسفة كما لو أنها قادرة على محْو الفروق الطبقية،وإرساء العدالة الإجتماعية،وبناء مجتمعات سليمة من الأمراض،ومن التّشوّهات،تحوّلت عند تطبيقها الى سلسلة من الكوابيس المريعة.وكانت النتيجة أنظمة آستبداديّة،ومعسكرات آعتقال،ومحتشدات رهيبة،ومجازر فظيعة وآعتدآت سافرة على حريات الأفراد والجماعات،ورقابة مشدّدة على الفكر والتعبير،وتزويرا للتايخ،وآنتهاكات لمقدسات الشعوب وهدرا لطاقاتها ولثرواتها.لنتذكر ستالين وما فعله بالمفكرين الأحرار،وبالمعارضين، وبالمنتقدين لحكمه.ولنتذكر ماو تسي تونغ وثورته الثقافية التي كان ضحاياها يعدّون بالملايين.ولا يفوتنا أن نشير الى كيم إيل سونغ الذي جوّع شعبه،والى الخمير الحمر الذين قتلوا مليوني نسمة في كموبوديا،وأفرغوا العاصمة من أهلها.وكلّ ذلك تمّ بآسم "الثورة"،وبآسم القضاء على الفروق بين الطبقات،وبناء الجمهورية الإشتراكية الفاضلة.ولنتذكر المجازر التي شهدتها ايران بعد الثورة التي أطاحت بنظام الشاه.ولعلّ دستويفسكي كان أوّل من لمّح الى أن الإشتراكية ليست صعبة التحقّق فقط،وإنما قد تؤدّي الى كوارث لا تحمد عقباها.وفي رائعته الشهيرة " الشياطين"،هويصوّر الثوريين الحالمين بمجتع عادل،خال من الطبقات،كما لو أنهم مجموعة من القتلة المحترفين،عديميّ الذمّة،ميّتي الضمائر.فهم يطلقون كلاما جميلا غير أنهم لا يتردّدون في قتل أحد رفاقهم بدم بارد،وإلقاء جثته في مستنقع عندما يحاول الإنفصال عنهم،مشكّكا في أفكارهم وفي نواياهم. وخلال القرن العشرين ظهرت العديد من الروايات المضادة للشيوعية.وفي كتابه "هيليوبوليس" يقول الكاتب الألماني إرنست يونغربإن منظّري اليوطوبيّات يعرضون الأحلام الجميلة والمغرية على الجماهير العريضة،ثم يأتي المطبّقون للنظريّات،وبأفعالهم "يحوّلونها الى هشيم”.ويرى بعض النقاد أن الأدب المضادّ لليوطوبيّات آنحاز الى "الأنا" ضدّ "نحن".والأنا" هنا ترمز الى الفرد الذي يرفض الإنتماء الى القطيع الكبير الذي تصنعه المجتمعات الإستهلاكيّة،لتجعلها راضخة لقوانينها وأوامرها.ثم أن هذه "الأنا " ترفض القائد " الذي يزعم أنه "يمتلك الحكمة والحقيقة المطلقة"، معتبرة نفسها ناطقة بآسم المجتمع المدني الذي يقاوم سلطة الزعيم الهائلة.ويمكن القول أن الأدب المناهض لليوطوبيات آزدهر بشكل فارق في المجتمعات الأنجلوسكسونية أكثر من كلّ المجتمعات الأخرى.وفي روايته الشهيرة "1984”،وأيضا في "مزرعة الحيوانات"، أنتقد الكاتب البريطاني الكبير جورج اورويل الأنظمة المتسلّطة،المتجسّدة في الأنظمة الشيوعية.ومن خلال شخصية "الأخ الأكبر" في رواية "1984” آنتقد ستالين وكلّ الزعماء الشيوعيين الذين أرتكبوا جرائم شنيعة بآسم الدفاع عن "المبادئ السّامية للإشتراكيّة”.وقبله وتحديد عام 1931، كان البريطاني الآخر ألدوس هكسلي قد فعل الشيء ذاته من خلال روايته الذائعة الصّيت"أروع العوالم".فالعلم مثلا،والذي كان الغرب يتصوّر أنه قادر على تحقيق السعادة والرخاء للبشريّة جمعاء،يتحوّل عنده الى وسيلة ناجعة في يد الأنظمة الإستبداديّة لتوطيد سلطتها،ومحق معارضيها،والمناهضين لها أفرادا كانوا أم جماعات.ويستشهد ألدوس هكسلي بقولة للمفكر الروسي باردييف ورد فيها ما يلي:”إن اليوطوبيّات تبدو كما لو انها قابلة للتحققّ أكثر من الماضي.ونحن نجد أنفسنا أمام سؤال مرعب:كيف يمكننا ان نتجنّب تحقّقها النهائي؟...اليوطوبيّات ممكنة التحققّ.الحياة تتجه الى اليوطوبيّات.وربما يبدأ قرن جديد فيه يحلم المثقفون والطبقة المستنيرة بالوسائل التي تمكّنهم من تجنّب اليوطوبيّات والعودة الى مجتمع طوباوي،أقلّ كمالا،لكن أكثر حريّة ".

وعن هذه الكتب التي عارضت اليوطوبيّات،وعرّت اكاذيبها وزيفها،كتب الناقد الفرنسي إريك فاي يقول:”كلّ هذه الكتب تبدو كما لو انها تعكس ذلك الإنحراف التراجيدي للطبقة الحاكمة التي يطلق أفلاطون على عناصرها آسم "الحرّاس".فهي تبرز ثورات مجدية وغير مجدية تجسّد صورة بروموثيوس الذي يقاوم العنف والبربرية.ورغم هذا الوجه الإنساني،فإنه بإمكاننا ان نقول بإنّ هذه الكتب أعادت الحياة للجحيم من خلال معارضتها لليوطوبيّات.ولا يعني ذلك جحيم دانتي او فرجيل حتى ولو كان الذّنب والجرم يظلاّن في قلب هذا الكون الحديث.إن جحيم القرن العشرين لم يعد تحت الأرض.إنه مسكون بالأحياء،وهو يمتدّ على وجه الأرض.وهو عكس "الجنة الضائعة"،جحيم أرضي آبتكره الإنسان من دون أيّ تدخّل من الله.وفي قرن شهدت فيه العديد من البلدان آنحسارا رهيبا لفكرة وجود الله،فتح الإنسان أنواعا من الجحيم:معسكرات آعتقال،ملاحقات،آنتهاكات لحريات الأفراد والجماعات،طمس لهويّات الشعوب...”.وخلال القرن العشرين،شهدت البلدان العربية مشرقا ومغربا موت العديد من اليوطوبيات وآنهيار الكثير من الأوهام،وألأباطيل.فالإستقلالات الوطنية التي كانت الشعوب العربية تأمل أن تحقق لها الكرامة والعزّة والعدالة الإجتماعيّة،والحريات العامة والخاصة،صودرت من قبل أنظمة فاسدة،ومستبدّة،حوّلت البلدان التي تحكمها الى سجون رهيبة،والى معسكرات للتعذيب والقتل والمراقبة.وأفضى حلم "الوحدة العربية من المحيط الى الخليج" الى كوابيس زرعت الريبة بين مختلف الشعوب العربية و،بثت بينها الفرقة والكراهية والبغضاء،وعمّقت الخلافات بينها مهدرة طاقاتها في حروب قذرة.وأما حلم تحرير فلسطين فقد جرّ على العرب هزائم متتالية،وفواجع سوف تظلّ آثارها باقية إلى أمد طويل.وقد ظنت شعوب بلدان ما أصبح يسمى ب"الربيع العربي" أن سقوط أنظمة فاسدة ومستبدة حكمتها لعقود طويلة سوف يعيد لها الكرامة والحرية المفقودتين، ويرسم لها مستقبلا مشرقا.غير ان هذا الحلم الجميل سرعان ماآنكسر،وتهشّم.وها شعوب تلك البلدان تواجهه مخاوف جديدة بشأن مستقبلها،وتناضل مرة اخرى من اجل الحفاظ على مكاسبها القديمة.وربما تفضي بها ثورات الكرامة والحرية والعدالة الإجتماعية الى "جحيم جديد" سوف لن تتمكن من الخلاص منه إلا بعد المزيد من الدماء والفواجع والدموع والآلام.