&

قرأت مؤخراً تقريراً نشرته صحيفة "الحياة" اللندنية" حول دور العامل النفسي في تجنيد العناصر الارهابية في تنظيم "داعش"، ووجدت في هذا التقرير ما يؤيد وجهة نظري القائلة بأن تنظيم "داعش"ليس تنظيماً عشوائياً أو يعتمد على الشق العاطفي والديني في الترويج لأفكاره واستقطاب عناصره من دول العالم كافة، بل يعتمد على دراسات نفسية معمقة في التغرير بالشباب والمراهقين على وجه التحديد. حيث أكدت الدراسات العلمية أن التنظيم يستغل حاجة الانسان إلى وجود هدف ومعنى لحياته، ثم يسعى التنظيم لملئ هذا الفراغ النفسي بالغ الأثر والتأثير في حياة الفرد، فيقدم المغريات الكافية لإحساس العناصر المستهدفة أو المرشحة للانخراط في صفوفه بالاشباع الذاتي، لاسيما لجهة الايهام بكونهم سيتحولون إلى "أصحاب رسالة" ونخب قيادية تسعى لتحقيق أهداف طموحة مثل محاربة الشر والسعي لبناء دولة الخلافة وغير ذلك من شعارات براقة تجذب بالتأكيد شرائح كثير ممن يشعرون بضعف دورهم في الحياة أو ضعف الانتماء إلى مجتمعاتهم ودولهم، ومن يعانون التهميش والاقصاء وغير ذلك من أعراض كارثية لا تنتبه كثير من الدول والمجتمعات إلى أخطارها.

ومن فهم ودراسة تكتيكات واستراتيجيات التجنيد والاستقطاب التي يطبقها تنظيم "داعش" نجد بالفعل أن التنظيم يخترق شرائح اجتماعية مهمة، فلم يعد كالأجيال السابقة من تنظيمات الارهاب يعتمد على شرائح مجتمعية معينة يستقطبها عبر الدعاية العاطفية المباشرة والخطاب الديني الحماسي والتعبوي، بل طور "داعش" آليات الاستقطاب والتجنيد وتخلى عن النمط التقليدي، الأمر الذي يفسر تعدد الطبقات الاجتماعية المنخرطة في التنظيم وتعدد الجنسيات والمستويات التعليمية، فلم يعد الارهابي، كما كان شائعاً، في فترات سابقة، يأتي من طبقات مجتمعية معينة أو من مستويات تعليمية وثقافية محددة، بل اتسعت دائرة "العضوية الارهابية" لتشمل طوائف وشرائح جديدة بفضل استراتيجيات داعش وإجادة المختصين بداخله لتقنيات التواصل الاجتماعي الحديثة في التخاطب والتواصل مع شرائح المجتمع كافة.

تكتيكات التجنيد والاستقطاب التي يطبقها "داعش" تبدو بالنسبة لي أقرب إلى تكتيكات جماعة الاخوان المسلمين الارهابية منذ بداياتها في العقد الثالث من القرن العشرين، حيث كانت الجماعة ولا تزال تعتمد أساليب تربوية معمقة في الاقناع والاستقطاب ثم ضمان الطاعة العمياء وطمس الهويات الشخصية وصهرها في إطار الجماعة واستغلال حاجة الأعضاء المختارين إلى الانتماء لجماعة أو كيان يوفر لهم الاحساس بالذات ويشبع هذه الرغبة النفسية القوية لديهم. والفارق بين تكتيكات الاخوان المسلمين و"داعش" ربما يكمن في تطور الفكر الداعشي ومرونته بدرجة كبيرة

لاستيعاب متغيرات العصر تقنياً وعلمياً والاستفادة منها في حشد الأتباع والمؤيدين والمتعاطفين، وبناء عالم افتراضي واسع يمارس التنظيم من خلاله عمله في الحشد والتجنيد. وهو أمر يختلف عن الأسلوب التقليدي في الحشد والتجنيد والاستقطاب الذي كانت ولا تزال جماعة الاخوان المسلمين الارهابية تمارسه، وهذا الفارق عائد بالاساس إلى اختلاف نمط القيادة بين الجماعتين الارهابيتين، فالاخوان جماعة متبلدة غارقة في الماضي متمسكة بتراثها ولا تمارس نقد الذات أو التجديد الفقهي والتنظيمي، في حين أن تنظيم "داعش" الارهابي قد انطلق من متغيرات الواقع واستغل مفرداته جيداً، ويمارس مهمته الاجرامية في الحشد والتجنيد عبر الانترنت تحديداً من خلال عناصر تلقت تعليماً جيداً، بل إن معظم هذه العناصر قد تلقت تعليمها في الغرب، ومن ثم يبدو الفارق هائل بين جيل داعش والأجيال السابقة من الارهاب والارهابيين.

هذه النوعية من الدراسات النفسية غائبة عن عالمنا العربي والاسلامي، الذي يكاد يدور في فلك تجديد الخطاب الديني والدفع باتجاه القاء المسؤولية على العامل الديني والنصوص الدينية في نشر الارهاب، في حين أن المسألة تبدو أعقد من ذلك بكثير. فرغم أن الجهود العلمية الجادة المبذولة على صعيد تجديد الخطاب والفقه الديني تبدو محدودة أو معدومة إن صح التعبير، ورغم أهمية أي جهود جادة قد تبذل على هذا الصعيد بالفعل، فإن ذلك لا ينفي أن هناك جوانب غائبة تماماً في التعامل مع ظاهرة التطرف والارهاب، وفي مقدمتها الدراسات النفسية المعمقة، التي

يمكن أن تضىء لنا جوانب مغايرة من المشهد الارهابي المتفاقم.

تقول الدراسات النفسية الغربية في هذا الشأن أن تنظيم "داعش" يستغل بقوة حاجة الشباب إلى ما يعرف ب"الاغلاق المعرفي"، وحاجة الفرد إلى الابتعاد عن حالة عدم اليقين في كل ما يخص حياته ومستقبله، ويربط علماء النفس بين هذه الحالة وبين التطرف والارهاب، حيث يستغلها الارهابيون بكثافة دعائية مفرطة لتقديم ردود واجابات قاطعة تسهم في إبعاد الفرد عن حالة عدم اليقين، التي تجلب له التوتر والقلق والاكتئاب، ورغم أن هذه الدعاية مضللة وكاذبة وكارثية على مستقبل الفرد، ولكنها توفر له حلولاً وقتية تسهم في هروبه من حالات التوتر والقلق المدمرة.

هذه الدراسات النفسية الغربية تشير في مضمونها بشكل غير مباشر إلى إشكاليات حقيقية في كثير من مجتمعاتنا العربية والاسلامية، ومن ذلك التربية والتنشئة الاجتماعية القائمة على الأمر والطاعة في الأسرة والمدرسة من دون بناء شخصية مستقلة قادرة على التفكير النقدي والحوار والنقاش، وهي التربية التي توفر شخصيات لديها قابلية عالية للتجنيد والاستقطاب الارهابي، وهذه الإشكالية تحديداً قد تكون مرتبطة ببيئات محددة ولا تفسر نجاح التنظيم في استقطاب عناصر من مجتمعات مغايرة في الغرب. هناك أيضاً إشارات علمية تفسر فاعلية الاستقطاب الارهابي في الغرب منها ضعف الانتماء والتهميش والاق