&

الديمقراطية شكل من أشكال الممارسة السياسية وهي شكل قديم عُرف منذ الإغريق وتعني فيما تعنيه المشاركة الشعبية في صنع القرارات السياسية، وتعتبر أفضل الأسوأ في طريقة الحكم وممارسة السلطة كما يقول عنها بعض مفكري ومنظري العمل السياسي، كما أن لها مخاطر كبيرة لأن ما يفصل فيها بين الحكم الرشيد وحكم الغوغاء شعرة، وقد تجلت هذه الخطورة قديما في انهيار جمهورية أثينا الإغريقية وإعدام الفيلسوف الكبير سقراط لأنها تحولت من حكم رشيد في ممارسة السلطة بمسؤولية إلى ممارسة شعبية يتحكم فيها الغوغاء. وفي أيامنا هذه ظهرت غوغائية الديمقراطية في خسارة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لمنصبه كرئيس للحكومة، وخروج بريطاني من تكتل أوربي سياسي واقتصادي يعتبر الثاني من حيث القوة السياسة والاقتصادية بعد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان لبريطانيا دور مؤثر وحاسم في قراراته.
خطيئة كاميرون أنه قطع وعدا خلال حملته الانتخابية بأن يعرض مصير بريطانيا كعضو في الإتحاد الأوربي على استفتاء شعبي يقرر مكانة بريطانيا في الإتحاد، كان مقررا إجراء هذا الاستفتاء في عام 2017، وقد أستعجل كاميرون في إجراءه في هذا التوقيت لأسباب سياسية تتعلق بكاميرون على الصعيد الشخصي.&
ويبدو لي أن هذا الوعد من سياسي محنك كديفيد كاميرون لم يكن هدفه تقرير مصير بريطانيا بصوت الشارع، إنما يريد به أن يكون تكتيكا انتخابيا على المستوى السياسي الداخلي، وورقة ضغط في مفاوضته في بروكسل مع قيادات أوربا على عضوية بريطانيا الذي يريده أن يكون متميزا ويمنح لندن قوة سياسية أفضل في إدارة الإتحاد الأوربي، ظنا منه أنه يملك القدرة السياسية والثقة الشعبية لإقناع البريطانيين بفوائد بقاء بريطانيا عضوا في الإتحاد الأوربي، لكن الوضع خرج عن سيطرته، فاقتراح رئيس الوزراء جعل الموضوع جدلياً في الأوساط الشعبية البريطانية ومنح معسكر الخروج مصداقية وجعل حججه الشعوبية أقوى في مخاطبة عاطفة الجماهير والتأثير فيها، فخسر ديفيد كاميرون الرهان وبالتالي منصبه المرموق وخسرت بريطانيا الموقع المؤثر في سياسات الإتحاد الأوربي من داخله.
&سيكون لهذا الاستفتاء وخروج بريطانيا تبعات على مسرح السياسة الدولية والاقتصاد العالمي وعلى شكل أوربا في المستقبل. والمستفيد من هذا الخروج على المدى القصير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي سيكون الإتحاد الأوربي ضعيفا ومعرضا للتفكك في مواجهة روسيا بوتين والتي تعمل على استعادة الدور السوفيتي. وعلى المدى البعيد ستكون ألمانيا أكبر المستفيدين على الصعيد الأوربي والعالمي سياسيا واقتصاديا، حيث ستحقق بالسياسة والاقتصاد عبر الإتحاد الأوربي ما لم يستطع تحقيقه هتلر بالحرب. وستتحكم في الإتحاد الأوربي دون شغب بريطاني. هذا الامتعاض الروسي البريطاني من الإتحاد الأوربي، ربما سيدفعهما للتحالف على مضض من أجل إضعاف الإتحاد الأوربي أو تقويضه وحرمان ألمانيا من قوتها وهيمنتها الأوربية الصاعدة، كما تحالفا على مضض في الحرب العالمية الثانية ضد هتلر وألمانيا.
الكاتب