تعجّ مجتمعاتنا الحالية بالكثير من السقطات الفكرية مما يعيق النهوض والرقيّ مثل بقية الامم التي تنحو الى تغيير واقعها بدءا من تفاقم الجهل واتساعه وازدياد التعبئة الاسلاموية المنحرفة باتجاه العنف والتشدد وتغوّل مايسمى الأحزاب الدينية وتغيير هيكلتها سياسيا وفق تنظير ما سميناه " التأسلم " بشكل مهول حتى تحوّل ورما سرطانيا مخيفا عمّ الجسد العربيّ كلّه وظهور المكوّنات الاثنية ليس من طرف المسلمين وحدهم بل انجرت الاثنيات الاخرى وتأججت وتسلّحت بالكراهية كردّ فعل لما يمارسه المتأسلمون حتى بات التنويريون عاجزين عن تحقيق ايّة خطى لإيقاظ هذه الخراتيت النائمة والذي أثقلت صدور أوطاننا بخناقها وعداواتها المستمرة حتى باتت البغضاء والكراهية وفقدان الثقة بين الأطراف سائدة وكلٌ يتربص بالآخر ويريد الإطاحة به وكأننا نعيد إثنية " أخوة يوسف " الاعداء.

بهذا القدر الكبير انتشرت النزعات المريضة وتعكّز الكثير من اهلينا على ماورائيات الدين والخرافات والاثنيات اضافة الى الانطواء ايضا باتجاه المذهب والقبيلة والعِرق والمنقذ الخيالي العادل حتى باتت الحلول العلمانية المخلّصة بصدق توصم بانها عدوة وإلحادية ودواء غير ناجع باعتبار هذا العقار والحلّ آتيا من خارج بيئتنا ووسطنا ويجب محاربته ونصب العداء لكل من يقوم بنشره وبالترويج له.

ويوما بعد يوم ينكمش العلمانيون وينطوون على انفسهم وتتضاءل قيمتهم فلا احد يصغي الى مايقولون ويكتبون بل اخذ التعامل معهم طابعا عدائيا وصل حد التهديد بالقتل والتصفية الجسدية بعد ان كان التعامل معهم قبلا اخفّ قليلا كاتهامهم بالإلحاد والخروج عن طاعة أولياء الامور وجرجرتهم الى محاكم الحسبة السيئة الصيت وتفريق الأزواج وإسقاط الجنسية عنهم او طردهم نفيا وتشتيتا قبل ان يتطوّر الأمر الى التصفيات الجسدية وشرعنة الموت بحقّهم.

وامام كل هذا الركام الهائل من التخلف والانطواء والجهل المفرط ظهرت العصبية الدينية وكشّرت عن انيابها بحيث اصبحت مهام المصلحين التنوريين اصعب من ان تحتمل في ظل الخوف من مواجهة هؤلاء الذين لايفهمون معنى الحوار وسعة الصدر مع المختلف وكأن العلمانية اليوم تحفر نفقا في إبرة معوَجّة.

ما الذي يفعله العقلانيون وهم يرون نفايات الجهالة وغياب العقل الناضج تتكدس انقاضا متزايدة يوما بعد يوم سوى انكفاء الكثير منهم يأسا بسبب قلة الحيلة والاضطرار الى الانزواء بحيث طالب البعض بإنشاء محميات صغيرة مسوّرة لهم كالتي عملها اليانكي الاميركي للأقلية المتبقية من الهنود الحمر في اميركا.

اكاد اجزم ان العلمانية الان في اوساطنا أوشكت ان تغيب كليا وربما في طريقها الى التناقص الى ان تصل الى الانقراض لعجزها عن مواجهة السيول الدينية المتفاقمة وتيارات التخلف، وهنا من السهولة جدا ان يقوم رجل الدين او زعيم القبيلة بلملمة تلك الحشود الجاهلة وتحريك الحسّ الفطري الديني والنزعة القومية لديهم فتستجيب لها العقول الفارغة فتتبلور وتتكاثر جموع الغوغاء الغفيرة لتكوّن تصدّيا لأيّ توجّه سليم منقذ، والويل الويل لكل مثقف واعٍ وعلماني شريف ومصلح توجعه حال بلاده يرى مثل تلك الرعية المغفلة وينبهها حتى تصيبه سهام الموتورين وتلاحقه سيوف وسياط الزعامات الدينية والقبلية واتهامات التكفير والخروج عن الملّة وتسفيه العقيدة ونكران الذات الإلهية ولا عجب ان ترى هذا المصلح العاقل جثة هامدة مرمية في الطريق بفعل مسدس كاتم صوت او غرزة سكّين مميتة بعد ان شرعن رجل الدين وأمرَ عصاباته بهدر دمه تلبية لنداء من يمثّل الخالق العظيم زيفا وتضليلا.

هذا هو واقع الحال عندنا، واين لنا من مواجهة مجتمعات مشبعة بالتخلف فكريا واقتصاديا تقودها حركات دينية غاية في الصلف والعنجهية والوقاحة وتدّعي انها تستمدّ قوتها من السماء وتستعين بجماهير هائلة مغفلة غالبيتها مسحوقة فقرا ومغيّبة وعياً ؛ تعلّقت بانتمائها العشائري والديني ونسيت انتماءها الطبقي؟

فلا عجب اننا نرى رجل دين او داعيّة ماكراً ليس له الاّ سلاطة اللسان ودغدغة العواطف يصل عدد معجبيه ومريديه في مواقع التواصل الاجتماعية مثلا الى اكثر من عشرة ملايين معجب بينما العلماء الكبار والمصلحون الخلّص والتنويريون وحاملو لواء العلمانية في مجتمعاتنا الواهنة لايتجاوز متابعوه ومعجبوه بضع مئات من الافراد.

تلك هي سياسة القطيع الجاهل المعصّب العيون التي يتبع راعيها بلا هدى اينما حلّ وحيثما أزف ويطاوعونه حتى لو قذف بهم في مهاوي لاقرار لها ؛ فالتبريرات جاهزة ف " هذا ماكتبه الله لنا " ولو وقعنا في غاية الانتكاس ولا اعتراض على قضائه وقدَرِه وهذا بالضبط مايحتاجه الزعيم الديني الى حائط مقدّس يتكئ عليه ويرمي بأخطائه على غيره وتبرئة نفسه ورمي كل التدهور والخطأ لتعليقها في شمّاعة الخالق طالما ان العقل الجمعي مغيب ولا يشير الى مواطن الخلل والعاهة،

انها الاساءة الكبرى الى ربّ الأرباب بحيث لايتورّع رجل الدين التضليلي من إسقاط كل الفشل والحطة والانحدار الى المقدّس الأوحد ليخرج بريئا امام الملأ المغفل ويتناسى مضمون الآية الكريمة في القرآن " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبتْ أيديكم " التي تعزو سبب مايصيب الإنسان الى سوء تصرفه وعدم استخدام عقله الاستخدام الأمثل كمنجاة من الوقوع في الزلل.

نفس الامر يحدث في واقع سياسيينا عديمي الضمير ؛ ففي السياسة العاهرة يحتاج السياسي عندنا الى عكاز ديني ليمارس دوره التخريبي ويضفي على نفسه صفة السيادة والانتماء الى شجرة الرسول والانتماء الى آل البيت لينسلخ اولا من العامة وينشئ له انتماءً نخبويا متميزا ويبدأ بالنهب والسلب والاستحواذ على المال العام وكل ما تناله يده، ويشبع نزواته الذاتية وينهل من الخيرات والنساء والنفوذ والحظوة والجاه ما شاء له، ويعمل في اعدائه قتلا وتدميرا وتهجيرا ويحيط لنفسه اتباعا وحاشية تكون سورا مانعا وحماية له من ايّ أذى محتمل قد يحيق به باعتباره ظلّ الله في الارض ويد الله الضاربة والقائم بأمره تماما كما كان يفعل الخلفاء والأمراء فهذا المنصور بالله والمتوكل عليه والمستعين به والمعتضد بسطوته، ولو تتبعنا سيرة الخلفاء والسلاطين والأمراء والقادة ممن حكم وتجبّر وتَعهّر نجد ان معظمهم ان لم نقل كلهم بسطوا الدين فراشا وثيرا لممارسة أقذر أنواع الدعارة السياسية ويبرر فوضاه ويحيل أخطاءه وكل آثامه لتعليقها على شماعة الدين.

ومثلما يحتاج رجل الدين الى عمامة وقلنسوة وجُبّة وعباءة ليستر بها عوراته وآثامه ويطلق لحيته ليبدو في مظهر الورع التقيّ امام جُهّاله وما اكثرهم عندنا ؛ يحتاج السياسي الى صولجان وسيف يسميه سيف الله الفيصل وبين سندان الدين ومطرقة الحاكم الضاربة يقع المواطن المسكين ؛ فهذا يطرق رأسه صداعا دائما بأفكار دكتاتورية أو عقائدية مجّة وذاك يعتصر جسده ذبولا ليتراءى بعد الهصر والإذلال شبح إنسان وبقية مخلوق لايدري نفسه أهو على قيد الحياة او سجلات الأموات.

ولا ادري متى نتخلص من هذا الفقه الديني الذي حزّت قيوده رقابنا وأيدينا وضيّق علينا كثيرا واستخدمته السلطة الدينية والسياسية معا منهلا ومصدرا لتمرير اهدافها ضد رعيتها الجاهلة والمنكوية مع انه لايعدو ان يكون فقها آدميا فيه من الاجتهاد والرأي غير القويم والإسناد غير الموفقة المشكوك فيها الشيء الكثير ومن صنع الانسان نفسه وقد كتب وأقرّ في زمكان معين وقد يصلح في فترة ما لكنه حتما غير صالح في فترات لاحقة ولايمكن ان يأتي أكله في مكان اخر.

تلك هي الحياة في تسارعها ووثبتها وسرعة خطواتها وحاجتها الى تحديث جديد في فهمنا ولا ينأى الفقه من هذه القاعدة فليس من المعقول ان تكون انظارنا الى الوراء وبقية الامم تأخذ دوما الصدارة وقصب السبق فاذا سلّمنا بان الفقه الإسلامي على سبيل المثال قد جاء من الله ونبيّه وليس لنا الاّ الانصياع له ؛ فماذا عن الفقه الذي أقرّه وافتى به المتأخرون في مذاهبهم وفيه من الاجتهاد والرأي والقياس القابل للخطأ والصواب لانه ناتج من نتائج العقل السلفي وكل ما أفرزه العقل البشري معرّض بلا شك للشطط والشطح والصواب ايضا، وما على العقل الفقيه المعاصر في المؤسسات والمرجعيات الدينية مثل الازهر وغير الازهر ان يجرؤوا على معالجة الشطط وغربلة تلك الاكوام الهائلة من الفتاوي الفقهية المعيقة لإزاحتها وطمرها باعتبارها عقبات ومطبات وردم الهوى العميقة التي أطاحت بنا مرارا ولازالت تطيح بنا ؛ فما المانع ان يتقدّم العقل على النصوص ولاسيّما النصوص الفقهية المتأخرة وهل نبقى أسارى قناعات فقهية تهلهلت مزقا بفعل تقادم أزمانها وأماكنها وكأن عصورنا ثابتة لا تتقدم وبوصلتنا متجهة باتجاه واحد لا تشير الى غيره؟؟

ليت هذه الجموع الغفيرة من شعوبنا المغفلة المغلوب على امرها تتفهم بان الفكر هو مجرى مائي جارٍ وكلما ركد هذا الماء واستنقع لم يعد صالحا لا نهلا ولا سقيا ولا بد من رافد يستمر في جريانه وهذا هو الذي نعنيه رافد العلمانية فهو الأنجع مشربا والأكثر والأنفع استسقاءً لصحراء عقولنا وعسى ان تدلوا بدَلْـوكم في هذا الرافد يا أهلنا الاعزّاء لترتووا ولتخضرّ بقاعكم نماءً وجنانا في ارضنا المباركة وهذا كلّ مانرجوه ونتمناه قبل فوات الاوان، وخوفي ان يهلكنا الجهل ويعمّ فينا الجدب والسبخ ومازال بصرنا وبصيرتنا في غفلة عن انتقاء الأصلح والأشفى والأكثر إنقاذا.

&

[email protected]