&

مرت الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس بيكو الموقعة في 17-5-1916 بين بريطانيا وفرنسا بمباركة روسية، والتي تنصلت منها لاحقا الحكومة السوفيتية بعد ثورة اكتوبر 1917،وتحولت تلك الذكرى الى مناسبة لتجدد الحديث وإثارة الجدل حول سياسات الاستعمار الغربي ومدى تأثيرها على تقرير مصائرالشعوب، ومنها الشعب الكردي الذي يخوض حاليا نقاشات حامية حول مستقبله مع ظهور وعود متعددة بشأن قرب تحديد موعد الاستقلال التام في وقت يعاني فيه الاقليم الكردستاني وهو الاقليم الوحيد المعترف به دستوريا في المنطقة من ارهاصات ومخاضات تتعلق بالاستحقاقات الديموقراطية وتعهدات التداول السلمي السلس للسلطة على اعلى مستوياتها،في وقت تتصاعد فيه الخلافات حول أزمة الرئاسة،وظهور رغبة أكثرية القوى السياسية بضرورة تغيير النظام الرئاسي الحالي بكردستان الى النظام البرلماني بإعتباره الخيار الديمقراطي الأفضل لصيغة الحكم،وكذلك تداعيات تعطيل البرلمان،واعادة رسم خرائط قديمة جديدة لمناطق نفوذ الاحزاب الكردستانية تشي بتجزئة المجزأ أصلا، وكأن ماجرى من تقسيمات دولية سابقة للوطن الكردستاني لم تكن كافية لضرب تطلعات الشعب الكردي.يجري كل ذلك في خضم زيادة مقادير الطبخة الاعلامية ضد إتفاقية سايكس بيكو والحديث المكرر عن المؤامرات الخارجية.
&
&وفي هذه المداخلة القصيرة لمآلات الاتفاقية العجوز بين اطراف القارة العجوز بحسب وصف العجوز دونالد رامسفيلد نتابع هذا السجال الطويل الذي هدأ مؤخرا حول مصائر شعوب سايكس بيكو. مع الإشارة الى الحالة الكردستانية
&
1
&مئوية أي حدث لا يشكل بحد ذاته قوة دفع لتغيره أو الغاءه. ربما يوفر مناسبة الاستذكار فرصة للتقييم و تقويم سياسات البلدان، أو ربما يشكل مادة بحثية لمؤسسات الصحافة ومؤسسات البحث الأكاديمي والعلمي. و لكن من الصعب أن نتصور أن مئوية حدث بحجم سايكس بيكو والتي بنيت عليه مصائر الشعوب و مصالح الدول يمكن ان يشكل لوحده سبباً لالغاءه.
أن مسيرة سايكس بيكو بوصفها إتفاقاً مبدئياً على تقسيم التركة المشرقية للدولة العثمانية كانت متزامنة مع أحداث ومراحل من التنصل و التحوير و التعديل في أكثر من محطة تبدأ من التغييرات التي حدثت في روسيا والتي تحولت نظامها من قيصرية الى سوفيتية كاشفة للوجه الاستعماري وما تم التوافق عليه مع بريطانيا و فرنسا.وكانت بريطانيا قد وعدت العرب بحسب رسائل الشريف الحسين مكماهون بدولة عربية مقتطعة من تركة الرجل المريض. في حين كشفت المراسلات بين سايكس و بيكو أن التقسيم كان يشمل التركة العربية و الكردية و التركية التابعة للدولة العثمانية وبحسب حاجة المستعمرين و ليس بحاجة تلك الشعوب.
&
ثم حدث تعديل آخر داخل البيت الاستعماري حين استبدلت بريطانيا ولاية الموصل الغنية بالنفط والتي كانت من حصة فرنسا بسوريا التي كانت هدية جبران خاطر من بريطانيا لابناء الشريف الحسين بن علي. فغادر فيصل أمير العائلة الحسينية في الشام الى بغداد بعدما أصبحت سوريا من حصة فرنسا. ثم تم تنصيبه ملكاً على العراق بولايتي البصرة و بغداد اولا بعد ما أثبتت ثورة العشرين أن الحكم البريطاني المباشر بحسب تخيلات سايكس بيكو لن يكون ذا جدوى. ثم جاءت أتفاقية سيفر ليشكل تعديلاً آخر لسايكس بيكو لانها وعدت بدولة أرمنية واسعة و دولة كردية صغيرة على جزء من كردستان العثمانية. بينما تم تعطيل مصير ولاية الموصل (كردستان الجنوبية) و كان الاولى بالبريطانيين أن كانوا صادقين في لعبة الدولة الكردية أن يقيموها في ولاية الموصل التي كانت تحت سيطرتهم و ليس في كردستان الشمالية التي كانت تحت سيطرة الاتراك العثمانيين و من ثم الكماليين. ثم كان ما كان من مصير فلسطين تحت الانتداب البريطاني تمهيداً لتنفيذ وعد بلفور.
&
و ما ذكرناه ليس سرداً لاحداث التأريخ بقدر ماهو توكيد لفكرة أن سايكس بيكو خضع منذ ولادته لتعديلات و تحويرات بقي منها الروح الاستعمارية للاتفاقية رغم أن الاتراك بقيادة مصطفى كمال أجروا عليها تغييراً كبيراً،فيما قضى الاتحاد السوفيتي الجديد على حلم الدولة الارمنية و تحالف مع تركيا الكمالية من أجل أستبدال اتفاقية سيفر بأتفاقية لوزان التي عززت تقسيم كردستان الفعلي.&
&
محطة أخرى في الطريق لقضم خارطة سايكس بيكو كانت في الحرب العالمية الثانية(1939-1945)، ففي حين أنتقم الالمان في الحرب الثانية من الاهانة التي لحقت بهم في الحرب الاولى (1914-1918 ) فأن تبعات الحرب العالمية الثانية في محيطه الشرق الاوسطي كادت أن تحول ايران الشاهنشاهية الى الرجل المريض الثاني خلال القرن العشرين، بعد الرجل المريض الاول (الدولة العثمانية). وذلك حين أحتلت الدول الحليفة(بريطانيا-الاتحاد سوفيتي) ايران. الا أن طهران المحتلة تمسكت بحجة حياديتها في الحرب و اغرت الاتحاد السوفيتي بأتفاقية مفترضة للنفط الجنوبي فتم القضاء على الحكومة الكردستانية في مهاباد وكذلك الحكومة الاذربايجانية في تبريز مثلما تم وأد الدولة الكردية و الدولة الارمنية في الحرب العالمية الاولى. وهكذا أحتفضت ايران بكيانها الجغرافي الذي دخلت به القرن العشرين و سلمت من الاعيب سايس بيكو بعد الحرب الاولى و صانت نفسها من الاعيب الحرب الباردة منذ نشوئها في الخمسينات وان لم تسلم من تأثير سياسات مراكز احتكار النفط وشركاتها الكبيرة.
&
اضحت فلسطين بدورها واقعة تحت الانتداب البريطاني كنتيجة لتقسيمات الحرب الاولى فاصبحت من حصة اليهود و هذه كانت آخر نتيجة لروح سايكس بيكو الذي أستمر منذ تقسيم فلسطين الى نهاية الحرب الباردة و أنهيار الاتحاد السوفيتي (رجل اوروبا الشرقية المريض) و استقلال الجمهوريات السوفيتية و جمهوريات آسيا الوسطى عن موسكو التي عادت الان الى الواجهة من جديد نادمة على خروجها الرومانسي من عالم الاتفاقات الاستعمارية وتستغل اعتبارها القيصري و السوفيتي وقوتها البوتينية للتعويض عما فاتها.

2
إذن ماذا بقي من سايكس بيكو ليتم الانقضاض عليه اليوم؟
&ما بقيت هي الكيانات التي تشكلت على أنقاض ولايات الدولة العثمانية و خريطة سايكس بيكو المشوهة. فقد نالت تلك الكيانات كل على حدة استقلالها من بريطانيا و فرنسا و لكن الحدود الرسمية بينها كانت دائما مثار الخلافات العميقة والكثير من الشد و الجذب لانها لم تكن بحسب حاجة الشعوب بل بحسب التقسيمات الاستعمارية.
يتذمر العرب و الاتراك من سايكس بيكو حين يتعلق الامر بالتقسيم الاستعماري للكيانات المستحدثة و بمصير فلسطين والوحدة العربية و مصير ولاية الموصل بوصفه اخر حلم استعماري للاتراك، لكنهم يتمسكون بالنتائج التي ترتبت عليها حينما يتعلق الامر بالكرد و كردستانهم. تركيا تحن الى ولاياتها العربية حينما يلوح في الافق أمكانية التغيير في الخرائط بعد أرهاصات الربيع العربي وأحداث المنطقة، و لكنها تصبح متحفظة ورجعية جداً حينما يتعلق الأمر باحتمال التغيير في كردستان العراق أو كردستان سوريا. ويبدو أن انقرة الاردوغانية بعد الانقلاب العسكري الفاشل قد راجعت سياساتها التوسعية التي كادت تهدد الخريطة الرسمية المنبثقة عن الميثاق المللي و تعهدات لوزان لمصطفى كمال اتاتورك بأن يحتفظ بتركيا علمانية صديقة للتحالف الغربي و متنصلة من احلام الامبراطورية العثمانية.&
&
وفي المجمل فأن غالبية الدول العربية و تركيا و ايران يعتبرون الحدود التي رسمتها إتفاقية سايكس بيكو و عدلتها المحطات اللاحقة للسياسة الامبريالية، حدوداً مقدسة لايمكن المس بها اذا أقترب الحال من المحظور الكردي. رغم أن تلك الحدود المرسومة قد تعرضت لاكثر من تغيير في القرن العشرين نفسه مثل الحدود بين ايران و البحرين، العراق و الكويت. تركيا و سوريا، تركيا و مطالبات السوفيت بمحافظات داخل الجمهورية التركية. ايضاً مصر و السودان اللتان أصبحتا دولتين مستقلتين، ثم لحق بهما جنوب السودان. اليمنين تقسما و توحدا و أريتريا نالت استقلالها في نهاية القرن الماضي دون ان تنتظر مئوية سايكس بيكو التي لم تكن معنية اساسا بمصير شمال افريقيا رغم ان العروبيين فيها كانوا معنيين بالمشرق كما المغرب.

3
على اعتاب تغيير جديد؟
الان هناك أمكانية لحدوث تغيير جديد ليس لأن الحاجة الى سايكس بيكو أنتفت بل لأن عالم ما بعد الربيع العربي قد يفرض هذا التغيير. هناك الاستقطاب المذهبي بعد تحول الثورة السورية الى حرب أهلية ببعد مذهبي أقليمي يلقي بظلاله على العراق و دول المنطقة أيضاً. ودولة داعش التي أنشأت داخل حدود دولتين ليست ايذاناً بانهاء عصر الترتيبات السابقة، بل ربما ايذان بسقوط الكيانات التي أستحدثتها بريطانيا و فرنسا بعد الحرب الاولى أيضاً و بذلتا فيها جهدا ادارياً و قانونياً كبيراً تعبيرا عن الوجه (الاعماري) للاستعمار. فسوريا و العراق و اليمن و دول أخرى كانت في رحلة الانتداب ورشة عمل لصناعة دول حديثة يعمل فيها داعش و أخواتها الان معاول الهدم و التدمير. و في هذا السياق فأن موجة الهجرة الحالية لايشبه موجات الهجرات الشرقية السابقة لأن الهروب من داعش ليس هروبا نحو خيارات معيشية أفضل في جنة الغرب بل هو هروب حياتي من جحيم داعش التي اصبحت تعبر عن اللادولة و اللانظام.
&
كانت دول ما بعد سايكس بيكو تفتقر الى دعائم المواطنة و الحقوق و الديمقراطية و خصوصا حقوق القوميات و الاثنيات المغلوبة على امرها لكنها كانت دول ذات بنى تحتية حديثة على أية حال. فجاء داعش ليمزق الحدود و ينذر بتدمير تلك البنى الحديثة للكيانات المشرقية.
&
في خضم هذه المعطيات، فأن الحاجة الى ترتيبات جديدة ينعش خيال التطلع الى عالم يطوي صفحة سايكس بيكو ويتصف ببعض المعقولية و لكن برسم احتمالات شتى، منها ان من يريد تعديلات جدية لصالحه عليه أن يتوقع تعديلات معاكسة بالضد من مصالحه ايضا.
&
أما بالنسبة لاحتمالات قيام دولة كردية في كردستان العراق فأن ما يجري على الاخرين ينطبق على الكرد أيضاً. يمكن أن يحصل التغيير لصالح الكرد على قاعدة مقولة ماركسية تتحدث عن الطبقة العاملة التي لن تخسر بقيام الثورة شيئا سوى قيودها..و لكن تجارب القرن العشرين فيها ملامح الحزن و الماساة كما ملامح السعادة و التفاؤل. فبعد الحرب الاولى أنشأ الشيخ محمود البرزنجي حكومته الكردية التي سرعان ما تم وأدها. و بعد الحرب الثانية كافح الكرد من أجل جمهوريتهم في مهاباد بكردستان ايران و لكن سرعان ما باع السوفييات الحلم الكردي بثمن اتفاقية نفطية مع طهران. وبعد الحرب الباردة التي تزامنت مع طرد النظام الصدامي من الكويت، أنشأ كرد العراق حكومتهم الاقليمية و هي باقية لحد الان ولكنها تعاني الامرين من ميول الاستبداد و تلوينه بشعارات قومية تتعلق بحلم الاستقلال دون تهيئة المستلزمات الوطنية لمعركة الاستقلال من حيث تمتين الجبهة الداخلية و بناء حكومة وحدة وطنية تنتصر للاستحقاق الديموقراطي للاحزاب المشاركة فيه و ربما تتبارى هذه الحكومة مع كانتونات الكرد في سورية في سباق نحو كيان كردي أو لا سامح الله سباقا نحو مصير مجهول يبدو و كأنه قدر كردي على مر التاريخ.
&
على مر مائة عام سلم أحفاد سايكس بيكو خرائط الاتفاقية الى القوى الكبرى و سياسات الكيانات الوطنية الحديثة فأذا كانوا غير راضين عنها لماذا لم يغيروها؟ و أنما تأتي احتمالية التغيير في الخرائط لحاجة داخلية و يتزامن رغبة تمزيق الخرائط مع رغبة داعشية في تمزيق خارطة الطريق الدستورية و القانونية و الاجهاض على البنى الحديثة التي كلفت الكيانات الشي الكثير. فأذا ما انتهى داعش و هل سنشهد في اليوم التالي حديثا جديا حول ترتيبات جديدة ام ان هذا اليوم سيكون بمثابة استراحة محارب يتوق فيه المتحاربون الى استئناف صراعاتهم العبثية والله اعلم.
&
&كاتب وصحفي من كردستان العراق