&
يعلق الدكتور يوسوكي توسيجاوا على كلفة الرعاية الصحية اليابانية، في صحيفة اليابان تايمز، فيقول:" لن تستطيع اليابان الاستمرار مستقبلا في تغطية زيادة الكلفة في الرعاية الصحية، حيث تكلف الرعاية الصحية اليوم 11.2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي الثالثة بعد الولايات المتحدة وسويسرا. كما ان القول بان كلفة الرعاية الصحية اليابانية منخفضة، وساعدت لرفع نسبة العمر لم تعد مقبولة، فقد اكدت الأبحاث بان طول العمر غير مرتبطة بنظام الرعاية الصحية، بل مرتبطة بالتعليم واساليب التغذية والتدخين والكحول والوراثة. بل أصبحت الكلفة جزءا من ضعف النظام الصحي الياباني، وشكرا للحكومة لاستطاعتها على السيطرة، حيث حددت أسعار الضمان الصحي والعلاجات الطبية، ولكن ليس لها سيطرة على كمية الخدمات التي تقدمها، والذي خلق ثقافة شعبية لزيادة زيارة المستشفيات بدون الحاجة لذلك طبيا، لان الخدمات متوفرة بدون حدود."&
فمنذ عقود طويلة تحاول الحكومات ان تسيطر على تصاعد كلفة الرعاية الصحية بدون ان تتأثر الرعاية نفسها، ومع ذلك استمرت هذه الكلفة في ارتفاع، مما أدى حتى القطاع الخاص لرفع صوته، فمثلا علق الملياردير الأمريكي المشهور ورن بوفت ليقول: "الارتفاع المرعب لكلفة الرعاية الصحية هو ديدان شريطية جائعة تلهم الاقتصاد الأمريكي." فكلفة الرعاية الصحية الوطنية الامريكية ارتفع الى 18% من الناتج المحلي الإجمالي، والذي من المتوقع ان يرتفع الى 20% مع قبول عام 2025. فقد ارتفعت الكلفة الشاملة للرعاية الصحية إلى حوالي ثلاثة ونصف تريليون دولار، أي بمقدار عشرة الآف دولار للشخص الواحد. وقد أدى كل ذلك للتفكير في ابداعات جديدة لخفض الكلفة وزيادة الكفاءة في الرعاية الصحية، فمثلا حاول الثلاثة، جيف بيزو، مؤسس شركة امازون، وورن بافت، مؤسس شركة بركشير هاثاوي، ووجيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لشركة جي بي مورجن، إيجاد حل لهذه المعضلة، وذلك بتشكيل شركة جديدة لتوفير ضمان صحي أفضل لموظفي شركاتهم الثلاث، والتي تضم حوالي ثمانمائة وأربعين ألف موظف، على أساس ان تكون خالية من ضغوط الربحية ومحدوديتها، وعلى ان تتوسع هذه الخدمة في المستقبل. كما علق نائب رئيس شركة كايز فاملي فاونداشن، جاري كلاكستون، فقال: "هناك أشياء كثيرة خاطئة في الرعاية الصحية اليوم، الأسعار عالية جدا، وأسواق التأمين مكثفة جدا، والمعلومات غير متوفرة، وكثير من المال يصرف على اشخاص بحالات مرضية متقدمة جدا."
فحلم هذه الشركات الثلاث تغير جذري لتوفير الرعاية الصحية، باكتشاف طرق أكثر شفافية وكفاءة، مع توفير المعلومات الكافية لكي يصبح المستهلك أكثر براعة في التسوق في سوق التأمين الصحي.& وتحلم شركة امازون ان يكون توفير الرعاية الصحية، جزء من بضاعتها المسوقة على شبكات الانترنت، ولتذكر أيضا "على بابا" الصين فقد تكون منافس آخر في هذه التجربة الجديدة. والمشكلة الكبيرة في توفير الرعاية الصحية الحكومية هي سوء الكفاءة وكثرة الصرف، بينما معضلة الرعاية الصحية الخاصة هي زيادة الربحية، وما يرافقها من الافراط في تقديم بعض الخدمات العلاجية التي لا يحتاجها المريض، والتي قد تنتهي باختلاطات مزمنة او قاتلة، والتي تعتبر أكبر سبب للوفيات اليوم، أي قبل امراض السرطان وامراض القلب.& ويبقى السؤال: لقد جربت الدول الرعاية الصحية الحكومية فبرزت معضلاتها، كما جربت دول أخرى الرعاية الصحية الخاصة بالتأمين الصحي، فارتفعت الكلفة أكثر، فما الحل؟ بل يبقى السؤال الأهم الذي يطرح نفسه هو: هل الحكومات توفر رعاية مرضية لمواطنيها ام رعاية صحية؟ أي هل تدفع الحكومات الكلفة للمحافظة على المواطن سالما من الامراض، ام تدفع الكلفة لكي يمرض المواطن، فتوفر له العلاج اللازم؟ فهل هذا النظام الصحي يشجع مقدمي الرعاية الصحية لخفض عدد مرضى المجتمع، أم لزيادة عددهم لتزداد الربحية؟ وهل هذا النظام الصحي يشجع على الممارسات اللاخلاقية الخاطئة، لكي تزداد نسب الربحية؟ وهل هذا النظام الصحي يشجع المستشفيات لزيادة صرف الادوية، وزيادة عدد العمليات الجراحية الغير ضرورية؟ وهل سترافق زيادة هذه العلاجات والعمليات بزيادة اختلاطاتها؟ وما حل الأخطاء العلاجية المترافقة للرعاية الصحية، والتي تقدر بملايين الحالات وتكلف المئات من المليارات من الدولارات؟ ويبقى السؤال: ما هو الحل، قبل ان تتحول الرعاية الصحية لفوضى اقتصادية خطيرة، ولتزيد كلفتها الى أكثر من ربع الناتج المحلي الإجمالي للدول في منتصف هذا القرن؟&
ليسمح لي عزيزي القارئ مناقشة محاضرة قدمها الخبير الصحي، ماثياس مولنبيك، وبعنوان، ماذا يحدث لو دفعنا للطبيب لكي يحافظ على صحتنا؟ وليتساءل: هل هذا التغير الجدري من دفع الكلفة للمحافظة على الصحة، بدل دفع الكلفة لعلاج الامراض، سيقلل نسبة الامراض في المجتمع، ويرفع الإنتاجية المبدعة، وينمي الاقتصاد، ويخفض الكلفة المرعبة للرعاية المرضية، وفي نفس الوقت يزيد من ربحية الأطباء والمستشفيات وشركات الضمان الصحي؟ ويستمر الخبير في نقاشه فيقول: الساعة الرابعة صباحا، وانا في الفندق، وأفكر في شيء وحيد، ألم الأسنان. وبعد خمس ساعات أنا جالس على كرسي طبيب الاسنان، وبدل ان يصلح الطبيب نخر سني، لكي اتخلص من الألم المرعب، يشرح لي عن فائدة جراحة التيتانيوم، هل سمعتم عن ذلك؟ يعني ببساطة استبدال السن المنخور بسن صناعي من مادة التيتانيوم ويثبت في عظم الفك، وليكلف عشرة آلاف دولار، بدل استبداله بسن سراميكي، يكلف ثمانمائة دولار من قبل، فهل قلق طبيب الاسنان على صحتي، ام مشغول بحساب ما سيربحه من علاجي؟ وطبعا لم تكن خبرتي هذه منعزلة، بل تبين دراسة أمريكية بأن 30% من العمليات التي تجرى اليوم، كعملية استئصال الرحم، وعمليات الظهر، وعمليات زرع المفاصل، غير ضرورية، بل تجرى قبل ان تجرب العلاجات الغير جراحية، الا تصدمكم هذه الأرقام؟ ولنتذكر أيضا المضاعفات التي قد تحدث بعد هذه العمليات، بل ونسب الوفاة بعد هذه المضاعفات. وقد تختلف الأرقام قليلا في دول أخرى، ولكن يعني ذلك بأنك لو ذهبت للعلاج في الولايات المتحدة، هناك احتمال كبير بان تجرى لك عملية لا تحتاج لها. وما سبب كل ذلك؟"&
ويتساءل البروفيسور: "ما الذي يشجع الأطباء بقيام بعمليات خطيرة ليس ضرورية؟ فقد يكون السبب نظامنا الصحي، الذي يشجع علاج الامراض لا المحافظة على الصحة، أي حينما تكون سالما معافى، ليست هناك حوافز لمقدمي الخدمات الصحية الخاصة، بينما تكون هناك ربحية عالية حينما تكون مريضا. فكلما زاد المرض، زادت العلاجات الدوائية والجراحية، كما تتضاعف هذه الربحية حينما يكون العلاج جراحيا. بينما ليس هناك أي حوافز للأطباء في المحافظة على صحة الموطنين، ولا حوافز لخفض نسبة استخدام الوسائل العلاجية، وخاصة العلاجات الجراحية، فما الحل؟ ماذا لو غيرنا هيكلة حوافز الرعاية الصحية، من رعاية تربح الطبيب حينما يمرض المواطن، الى رعاية يربح الطبيب حينما يحافظ على صحة المواطن، ويخسر حينما يمرض هذا المواطن؟ نظام يرعي المواطن السليم؟ من نظام يعالج المريض، الى نظام يحافظ على صحة المواطن لكي لا يمرض؟ وهل ستغير هذه السياسة جميع أعضاء المؤسسة الصحية الوقائية والطبية والدوائية من موظفين يعملون لعلاج الامراض، الى موظفين يعملون للمحافظة على صحة المواطنين؟ فلنتصور بأننا سنصمم الرعاية الصحية لنظام لا يعوض على علاج الامراض، بل يعاقبها، الى نظام يدفع كلفة كل يوم تحافظ هذه المؤسسات على المواطنين اصحاء. فمثلا، يمكن ان نستخدم أموال الدولة لدفع الكلفة لشركات التامين عن كل يوم يمر على المواطن ويبقى سالما معافيا، بينما لو مرض هذا المواطن لن تستلم شركة التأمين أي مال على علاج المواطن حينما يمرض، وطبعا على شركة التامين توفير جميع العلاجات الدوائية والجراحية لإرجاع المواطن لصحته، عقابا لشركة التأمين، لأن المواطن أصاب بمرض، وحينما يرجع المواطن سليما معافى، ستستمر الدولة في دفع الكلفة يوميا لشركة التأمين على كل يوم يبقى المواطن في صحة تامة. وبذلك يكون دور مؤسسات الرعاية الصحية المحافظة على المواطن سليما معافى، ويعني بذلك بأن جميع هذه المؤسسات هي مؤسسات الرعاية الصحية، وليست مؤسسات الرعاية المرضية، وبذلك تقل الحالات المرضية، وتنخفض كلفة الرعاية الصحية، كما سيتجنب الأطباء إعطاء علاجات لا حاجة لها، ولا إجراء عمليات تضر ولا تفيد. كما ستزداد الفائدة الاقتصادية للجميع بخفض عدد المرضى في المجتمع، وطبعا ستخلق بيئة شاملة لتطوير جميع الوسائل اللازمة للمحافظة على صحة المواطن.
وطبعا للمحافظة على الصحة يحتاج ان يتشارك المواطنين والمؤسسات الصحية جميع المعلومات، الفحص الطبي تحليل الجينات ودراستها، والفحوصات المخبرية والمقطعية، لتعمل المؤسسات الصحية جميعها لتضع قرارات علاجية أخلاقية صائبة، لتتعرف على الأشخاص المعرضين للإصابات المرضية والعمل على الوقاية منها، كما أن الذكاء الآلي سيلعب دورا مهما في تشخيص الامراض، ومحاولة الوقاية منها قبل ان تستشري في الجسم، كمتابعة كيماويات الدم بأجهزة متطورة، ومتابعة الجينات السرطانية في الدم، فمشكلة السرطان اليوم التشخيص المتأخر، فالتكنولوجيات الجيدة ستساعدنا ان نكتشف السرطان قبل ان يغزو الجسم وتكون معضلة علاجه سهلة وشافية، فنستطيع اليوم بفحص عدة مليلترات من الدم ان نكتشف مادة دي ان ايه السرطان ونبدأ العلاج مبكرا، لنضمن الشفاء.
فإعادة تصميم نظام رعاية المرض الى رعاية الصحة، سيخلق رعاية صحية حقيقية، تبدأ بالوقاية قبل العلاج، وتكشف الامراض مبكرا لي تشفيها تماما، ويحتاج ذلك التغير في جميع الآليات الصحية، كما تحتاج لرغبة سياسية وحكومية، لتوجهه السياسات والميزانية نحو الوقاية والتشخيصات المبكرة، كما تحتاج الى حوافز مالية جيدة تدعم هذه السياسات. وطبعا تحتاج أيضا للمواطن ليغير سلوكه الحياتي لسلوك صحي في الغذاء والرياضة وتجنب القلق والتدخين والكحول، وقد تكون خطوة صعبة، ولكن علينا ان نبدأ لنخلص المواطنين من الكثير من الامراض، مع تشخيص الامراض الأخرى مبكرا ليتم شفائها. وجميع التكنولوجيات والموارد التي نحتاجها لهذا النوع من التغير موجود اليوم، وما نحتاجه هي الرؤية الصحيحة والرغبة في التغير. ولنا لقاء.&
د. خليل حسن، كاتب بحريني
&