تشّتد الأزمة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبين دول المجموعة الأوروبية وسط إنذارات وتهديدات من طهران ورفضٍ أوروبي للإبتزاز والتوعّدات يرافقه سعيٌ مع الولايات المتحدة وراء تهادنية في مسألة "انستيكس" من أجل احتواء التداعيات الخطيرة المترتّبة على إصرار البيت الأبيض على عدم تفعيل الآلية المالية الأوروبية (انستيكس) للالتفاف على العقوبات الأميركية التي تمنع إيران من تصدير نفطها. أوروبا قلقة. إيران تريد منها الهلع وليس مجرد القلق، ولذلك توجّه اليها الإنذار الذي يخيفها وهو انسحاب الجمهورية الإسلامية من الإتفاقية النووية. فالدول الأوروبية الرئيسية مهووسة بهذه الاتفاقية وتخشى انسحاب طهران منها لتعود الى تخصيباليورانيوم بنسبة عالية واتخاذ إجراءات أخرى تُعجّل في امتلاكها السلاح النووي. هذا خط أحمر للرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي أنذر طهران بأن الاستمرار في التخصيب العالي النسبة سيؤدي الى إجراءات الأرجح أن تتخذ شكل العمليات العسكرية على المفاعل النووية الإيرانية مثل آراك وبوشهر. كل الجهود الديبلوماسية تنصبّ&الآن على موعد 26-27&الشهر الجاري في بياريتز فرنسا حين ستنعقد قمة الدول الصناعية السبع الكبرى وحيث ستكون آلية "انستيكس" على الطاولة. طهران وجّهت إنذاراً للدول الأوروبية بأن أمامها حتى منتصف هذا الشهر للبدء بتشغيل الآلية لضخ العائدات النفطية. الرئيس الفرنسي ايمانيول ماكرون الذي يسير على حبلين مشدودين هما الآلية المالية والوساطة التي يحاول أن يقوم بها بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية ذاق طعم استياء واحتجاج دونالد ترامب على وساطته قائلاً: لا تتحدث باسمنا. هذا الموقف لربما يكون الرد المبكّر على مساعي طهران لدفع الأوروبيين الى إجبار دونالد ترامب على الخضوع لمطالب إيران وموافقته على تمكينها من بيع نفطها عبر الآلية&الأوروبية&–&حتى ولو كان بإجراءات رمزية. هذا في الوقت الذي تطوّرت فيه فكرة تشكيل حلف عسكري لحماية أمن الملاحة في مياه الخليج واتخذت المنحى العملي بإعلان بريطانيا أنها ستنضم الى الولايات المتحدة في هذه المهمة الأمنية البحرية وكذلك بإعلان إسرائيل استعدادها للمشاركة في المهمة البحرية بقيادة الولايات المتحدة. إيران حذّرت من "تداعيات كارثية" لمشاركة إسرائيل واعتبرت مؤتمر البحرين في 31 آب الجاري لبحث القوة البحرية "استفزازياً". الرئيس حسن روحاني تحدّث بلغة تهديدية مع الولايات المتحدة مؤكداً على أن لا أمن في مياه الخليج إذا لم تكن إيران راضية وموافقة عليه وان لا دولة ستكون قادرة على تصدير نفطها إذا مُنِعَت إيران من استئناف تصدير نفطها. قال "الأمن مقابل الأمن والنفط&مقابل النفط" في&رسمٍ واضح للموقف&الإيراني التفاوضي رافقته إجراءات عسكرية ذات أهمية وخطيرة تمثّلت باستخدام أجهزة تشويش على أنظمة تحديد المواقع&GPS&وذلك للإيحاء بأنها صادرة عن سفن حربية أميركية بهدف استدراج هذه السفن الى المياه الإيرانية للاستيلاء عليها في ما اعتبرته واشنطن "فخّاً إيرانياً" حذّرت سفنها منه. كل هذا يُبقي الوضع الراهن في فلك المواجهة العسكرية، أما نتيجة حادثة في مياه الخليج،&أو عمداً استهدافاً للمفاعل النووية الإيرانية إذا تعالى تخصيب اليورانيوم. فالأمور تبدو هادئة سطحياً الآن. البعض يقول انه "الهدوء ما قبل العاصفة"، والبعض يقول&انه&"التصعيد المظبوط"&managed escalation&في استراتيجية كل من الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية.&إنما الخطر&يكمن في أن&"تجري الرياح بما لا تشتهي السفن".

روسيا تحاول أن تلعب دوراً مؤثّراً في طهران وقد ترسل الأسبوع المقبل مبعوثاً خاصاً الى طهران لتهدئة الوضع وذلك&من خلال إجراءين تتمناهما موسكو على طهران هما: التوقف عن زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم، والامتناع عن التعرّض الى الناقلات في مياه الخليج.

الرئيس فلاديمير بوتين يحاول التنسيق مع نظيره الفرنسي ايمانيول على أساس البناء على النفوذ الروسي مع طهران والنفوذ الفرنسي مع واشنطن. لكن فرنسا تدرك أن نفوذ أوروبا مع الرئيس ترامب وإدارته محدود&سيما في مسألة الآلية المالية التي اخترعتها المجموعة الأوروبية في الواقع للتحايل على العقوبات الأميركية، فاصطدمت ببراغماتية أميركية وببراغماتية الشركات والبنوك الأوروبية وفي طليعتها الألمانية. ماكرون سيجتمع مع المستشارة الألمانية انغيلا ميركل قبل 17 الشهر الجاري سعياً وراء تنسيق الماني&–&فرنسي قبل 20 آب، موعد الإنذارات المعنية بالآلية المالية، وسعياً وراء استراتيجية أوروبية قبل 26 آب، موعد اللقاء مع الرئيس الأميركي في قمة الدول الصناعية السبع.

الرئيس الإيراني حسن روحاني يستعد لتبني مواقف أكثر تجانساً وتماشياً مع قيادة "الحرس الثوري" الذي يقود الجمهورية الإسلامية حالياً بجانب مرشد الجمهورية آية الله خامنئي. المعلومات تفيد ان روحاني على وشك عقد اجتماعات فائقة الأهمية ومميزة مع قيادة "الحرس الثوري" وان مواقف جديدة ستصدر عن هذه اللقاءات المرتقب عقدها يوم الاثنين.

الإشاعات تفيد&–&وهذه اشاعات حصراً وليست معلومات جازمة&–&ان وزير الخارجية محمد جواد ظريف قد يقدّم استقالته ليخلفه وزير عنيف المعاملة، قاسي التعامل، متحجّر في التفاوض، في رسالة الى الغرب الذي اعتاد ديبلوماسية "الابتسامة العريضة" من جواد ظريف. هذه&مجرد اشاعة يتداولها بعض الأوساط هدفها أقله التلويح بالتشدد العنيف اللهجة كركن من سياسات طهران في هذا المنعطف، ورسالتها ان من يخلف ظريف لن يكون&بنّاءً ولا متساهلاً ولا سائلاً عن الأوروبيين وما تعتبره طهران خداعهم وخيانتهم لها. أما في حال تحوّل الإشاعة الى استقالة فإن ذلك سيزيد من التوتر ومن وتيرة الخطر.

فالقيادة الإيرانية سئمت من الرهان على دول المجموعة الأوروبية. عملياً، الخطأ خطأها لأنها افترضت ان في استطاعتها دفع أوروبا الى الهلع ثم الى الوقوف في وجه دونالد ترامب واجباره على التساهل مع إيران. أخطأت في اعتقادها ان في وسعها شق صفوف حلف شمال الأطلسي (ناتو). وها هي ترتكب خطأً آخر في انذارها الى المجموعة الأوروبية أن أمامها أسبوع لتلبي المطالب الإيرانية والبدء بتشغيل الآلية المالية اعتقاداً من القيادة الإيرانية ان هذا التهديد سيدفع أوروبا الى الوقوف في وجه الرئيس الأميركي أثناء قمة بييريتز خوفاً من انهيار الاتفاقية النووية.

صعب التنبؤ بما ستسفر عنه قمة الدول الصناعية، لكن المواقف الأميركية ازاء مختلف الملفات في الخليج والشرق الأوسط لا تفيد بأنها قلقة ومترددة وخائفة&–&كما يحلو للمحللين السطحيين القول. انها مواقف متماسكة أساسها فرض العقوبات لدفع الطرف الممانع الى الصفقة، توسيع رقعة المشاركة في تحالفات وشراكات أمنية لتقاسم الكلفة والمسؤولية. فالرئيس دونالد ترامب ليس راغباً بدور الشرطي لكنه ليس هارباً أمام التهديد ولا واقعاً في فخ الاستدراج للتسرّع الى مواجهة عسكرية. دونالد ترامب استرق من&إيران بدعة "الصبر الاستراتيجي" وتبناها تكتيكاً واستراتيجية لأن في قدرته الصبر بلا تهوّر الى الخيار العسكري فيما القيادة في إيران افتقدت القدرة على الصبر لأنها تحت نيران العقوبات الاقتصادية التي تحرقها وتدفعها الى التهور الاستراتيجي.

أذرعة إيران في العراق واليمن وسوريا ولبنان&تعرض عضلاتها لتغطّي على الضعف البنيوي الذي تعاني منه إيران بسبب العقوبات داخلياً. "الحرس الثوري" اتخذ قرار ابراز قدراته العسكرية المتفوقة في مضيق هرمز وباب المندب ومضيق طارق وفي كامل مياه الخليج ليوجّه رسالة القوّة والاستعلاء والثقة بالنفس واللاخوف والإقدام حتى وان كان ذلك سيؤدي الى "عليّ وعلى أعدائي". انه يسيطر الآن على الشق السياسي المدني من الحكم في شخص الرئيس حسن روحاني الذي تحدث بلغة "مضيق بمضيق" داعماً عملياً احتجاز الناقلات انتقاماً. و"الحرس الثوري" عازم على التصعيد ورفع السقف ليس فقط مع الأوروبيين وفي مياه الخليج&وضد الدول الخليجية وانما أيضاً عبر أذرعته في اليمن والعراق وسوريا ولبنان.

لذلك عارضت إيران الأسبوع الماضي سعي الحكومة العراقية وراء استيعاب "الحشد الشعبي" في القوات العراقية التابعة للدولة العراقية.&كي تكون مرجعيته بغداد وليس إيران. عطّلت طهران المساعي العراقية الحكومية كي تبقي على منطق توسّعها إقليمياً كحق لها من خلال انشاء جيوش غير&نظامية وميليشيات تابعة لها. هذا الى جانب فوائد تواجد أذرعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية بقرب من القوات الأميركية المتواجدة في العراق في وضع هش وخطير جداً إذا قررت طهران رفع سقف المواجهة. لذلك اتخذت القيادة الأميركية قرار تحصين قواتها في العراق وتعزيز تواجدها في قاعدة "تنف" في سوريا الى حوالى 5000 عنصراً بدلاً من وعود سحب القوات. فواشنطن واعية لما في ذهن طهران وهي تتأهب وتتّخذ استعداداتها.

في لبنان، دخلت الولايات المتحدة على الخط بعدما تبيّن لها ان خطة "حزب الله" وحلفائه في لبنان أتت بتنسيق مع طهران هدفها الاستيلاء على مفاصل الدولة، وإحداث انهيار مالي واقتصادي مؤسساتي، واسقاط الحكومة الحالية&ليكون في المتناول تشكيل حكومة جديدة ذات لون واحد عنوانها&المواجهة، ووجهتها إيران. أدوات "حزب الله" وحليفها رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره وزير الخارجية جبران باسيل هدفها الإخضاع والإقصاء والتدجين والانهيار.&"حزب الله" لا يبالي بالانهيار الاقتصادي المؤسساتي بل ان الانهيار في مصلحته لأن الحزب يعتمد على آليات مالية خارج البنوك. أما امتلاكه الحكم رسمياً عبر حكومة موالية قطعاً لها تقصي عنها أية قوى معارضة، فإن ذلك يمكّنه من تقزيم العقوبات الأميركية المفروضة عليه وربما لاحقاً على حلفائه. لذلك وصف حلفاؤه بيان السفارة الأميركية الذي أكد دعم واشنطن "المراجعة القضائية العادلة والشفافة&دون أي تدخل سياسي" في حادثة "قبرشمون" التي تحوّلت الى حملة سياسية لإقصاء المعارضين لـ"حزب الله"، وصفوه بأنه "وقاحة بلا تأثير".

لكن أدوات الانتقام الأميركي عبر العقوبات لن تقتصر على "حزب الله" وإنما قد تطال حلفاءه حتى على مستوى الدائرة الصغيرة المقرّبة من الرئيس وصهره&–&وربما تطالهما أو أحدهما. ثم ان الولايات المتحدة واعية لأدوات ووسائل التفاف "حزب الله" على العقوبات واستقلاله المؤسساتي واعتماده بدلاً على شبكة محلية وإقليمية ودولية معقّدة لتمويل احتياجاته، وهي تستعد لإجراءات احتواء الالتفاف.

فالمعارك بين إدارة ترامب وبين القيادة الفعلية في طهران المتمثلة بـ"الحرس الثوري" معارك متعددة اقليمياً وفي البحار. أما القيادة المتمثلة بالرئاسة الإيرانية، فالأرجح أنه سيتم استيعابها فعلياً في الأيام الآتية بالذات في اطار العلاقة الإيرانية&–&الأوروبية التي تزحف من زمن العناق والابتسامات في&عهد&جواد ظريف الى زمن التجهّم والغضب والانتقام في هذه المرحلة.

&