أفرزت الثورة السورية التي دخلت عامها التاسع ظهورًا واضحًا ومميزًا للأكراد الذين كان لهم دور لا ينكره أحد في محاربة الإرهاب، ومواجهة تنظيم داعش وإسقاط خلافاته المزعومة.

ربما لم يكن الكثير منا يسمع عن الأكراد شيئًا، ومن سمع كان يضعهم في خانة العملاء، وخونة الأوطان، في تصور مخالف ومنافٍ للحقيقة تمامًا.

على مدار سنوات طويلة، ظل الأكراد اسمًا مجهولًا لدى المثقف العربي، فمعظم وسائل الإعلام العربية لم تكن تتطرق لهم، ولا تتحدث عن مشاكلهم، بل لا أكون مبالغًا إن قلت إن كثيرًا من الإعلاميين والصحفيين العرب، خاصة المصريين، لم يكن يعرف مكان تجمعهم ولا وطنهم.

في وقت سيطرت المسلسلات التركية على المنطقة العربية، وكانت قناة "الجزيرة" هي الشاشة الأولي لدي قطاع كبير من سكان المنطقة، كان طبيعيًا أن يُغيَّب الأكراد، ويُمنع ذِكرهم إلا مصحوبًا بكل سوء ونقيصة.

كأحد أبناء جيل الثمانينات تشكل وعيي الثقافي &في بداية الألفية بالتزامن مع صعود حزب "العدالة والتنمية" لمقاعد السلطة بتركيا، كانت الهالة الترويجية المحيطة بهذا الحزب أكبر من أن أتحملها فسقطت في فخ الإعجاب به، وجدتني عن دون قصد أو علم أقتنع بأكاذيبهم حول الأكراد الذين لم أكن أعرف عنهم شيئًا، كنت كغيري من أبناء هذا الجيل ضحايا للإعلام التركي والإخواني في النظر للأكراد كعملاء للغرب، يسعون لتقسيم وتفتيت الوطن العربي، سقطنا أسرى لتلك الصورة التي صدروها عن إقليم كردستان كـ "إسرائيل الثانية" رغم أن علاقتهم بالأولى كانت أكبر وأوثق من أن تصدقها عقولنا الصغيرة.

جاءت ثورات ما عُرف بالربيع العربي لتكشف الكثير من الحقائق، وتفضح الكثير من الأكاذيب، التي روجتها الآلة الإعلامية التركية وأذرعها المختلفة حول الدور السياسي والإنساني لأنقرة، فضلًا عن الدور الذي لعبته جماعة "الإخوان المسلمون" في الترويج للرئيس التركي رجب طيب أردوغان كمثال للنموذج الإسلامي الذي يستحق أن يكون خليفة للمسلمين، يدين له الجميع بالولاء والطاعة.

مع اشتعال الحرب السورية، بدا الوجه الأخر لأنقرة يتكشف قليلًا، فالحكومة التركية التي كانت على علاقة جيدة بنظام دمشق لم تتورع عن فتح الحدود مع سوريا، والسماح للجهاديين من شتى أنحاء العالم بالمشاركة في القتال ضد الحكومة السورية، وتحت ستار الجهاد السوري تشكلت الميليشيات الإرهابية برعاية تركية، واعتنق معظم الفصائل الموالية لأنقرة الفكر التكفيري، وبمرور الوقت صارت داعش وجبهة النصرة أذرعًا تركية تتلقي أوامرها من أردوغان ومخابراته.

ساهمت أنقرة بقصد في إطالة أمد الأزمة السورية بعد أن دعمت القوي التكفيرية، بصورة تحول معها الحراك الشعبي السلمي إلى حرب أهلية.

كان تأسيس قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد بشمال سوريا كاشفًا للنوايا التركية بسوريا بل وعموم المنطقة، فالقوات الكردية التي استطاعت أن تقف في وجه ميليشيات أنقرة، وتواجه إرهاب داعش، واجهت حربًا إعلامية تركية شرسة من أجل تشويه صورتها، ففي الوقت الذى تصنف أنقرة وحدات حماية الشعب الكردية وقوات سوريا الديمقراطية في خانة الإرهاب، تعرضت هذه الوحدات والقوات لحرب أخرى من قوى موالية لأنقرة وجماعة الإخوان تصفهم بـ"الملحدين المرتدين عن الإسلام"!

ورغم اعتناق أكثر من 90% من الأكراد سواء بسوريا أو العراق للدين الإسلامي الحنيف، إلا أن أنقرة سعت دومًا لصناعة فتنة عربية كردية عن طريق اتهام الأكراد بعبادة النار وتقديسها في احتفالاتهم، وهو أمر منافٍ للحقيقة تمامًا.&

كمتابع للشأن الكردي والتركي، أكاد أجزم أن أنقرة التي تضم قرابة 20 مليون كردي يمثلون 49% من أكراد العالم، جعلت من نفسها حائط صد بين أي تقارب عربي كردي، وانتهجت تركيا على مدار أنظمتها المختلفة، خاصة نظام أردوغان، سياسات قذرة للحيلولة دون أن يتعرف العرب على الكرد عن قرب، ولم تتورع عن نشر الشائعات، وإطلاق الأكاذيب حول القضية الكردية وربطها تارة بإسرائيل وتارة أخرى بمخططات الانفصال والتقسيم الغربية في محاولة لصنع الكراهية والشقاق بين العرب والكرد بما يسمح لها بإبقاء سيطرتها على المنطقة، ومد نفوذها، وتحقيق مصالحها على حساب المصلحة العربية.

أما وقد سقط القناع عن نظام أردوغان، وأصبح واضحًا أمام كل ذي عينين أن تركيا لا تحمل الخير للعرب والمسلمين، إنما تتحرك وفق استراتيجية ومشروع يهدد الأمن القومي العربي، يجدر بدول المنطقة مجتمعة أن تستفيق من غفوتها التي طالت، يجدر بالعرب أن يمدوا حبال الود والصداقة مع إخوانهم الكرد بكل مكان، خاصة سوريا والعراق.

لو نظر العرب في كردستان العراق، فلن يجدوا إسرائيل ثانية كما صورها لهم الإعلام التركي والإخواني، ولكنهم سيجدون تجربة حكم ذاتية ناجحة ضمن دولة العراق الفيدرالية، في كردستان سيجد العرب نيجرفان بارزاني، رئيس الإقليم الذى يسعى بكل قوة لخدمة شعبه بمكوناته العرقية والدينية المختلفة، نيجرفان الذى لم تشهد فترة توليه رئاسة وزراء الإقليم على مدى قرابة 18 عامًا أي حادثة فتنة عرقية بين العرب والكرد، صاحب نظرية التسامح والتعايش السياسي، ففي كردستان لا فرق بين مواطن عربي أو كردي، مسلمًا كان أو مسيحيًا، إيزيديًا أو سريانيًا، كلهم مواطنون يحكمهم قانون واحد وتجمعهم أرض واحدة.

على العرب أن يسعوا بكل قوة في دعم تجربة إقليم كردستان، وإنهاء احتكار تركيا لثرواته، حيث تعد أنقرة المستثمر الأول في الإقليم لكونها دولة جوار ومنفذ كردستان الوحيد على العالم، كردستان أرض فتية غنية بالموارد الطبيعية والثروات، ومن الذكاء الاقتصادي أن تكون قبلة لرجال الأعمال العرب، فليس من الذكاء ترك تلك الثروات للأتراك يبخسون أثمانها لتحقيق مكاسب مهولة على حساب كردستان وشعبها.&

وفي سوريا، يبقي الأكراد الرقم الصعب في مستقبل البلاد، فرغم محاولات أنقرة المستمرة لاحتلال أرضهم، وتشويه صورتهم، نجح كرد سوريا في تأسيس إدارة ذاتية ربما تكون الأكثر استقرارًا وأمنًا بعموم البلاد، وعلى العرب إن كانوا جادين في حل الأزمة السورية والوقوف في وجه النفوذ الإيراني والتركي أن يدعموا تجربة الإدارة الذاتية ويستضيفوا لقاءات لتقريب وجهات النظر بين حكومة دمشق ومجلس سوريا الديمقراطية الذي لا يمانع فى دور عربي كبير فى الأزمة خاصة فى ظل تبنيه استراتيجية&تحافظ على وحدة الأرض السورية&وهو&ما لا يتعارض مع الأمن القومي العربي.