كثيرة هي التحليلات والآراء التي طُرحت حول الضربة الإيرانية لإسرائيل، معتبرة أنها مجرد مسرحية، فيما هي في الواقع حرب حقيقية وتحدي تاريخي كبير، لكن هذه هي إمكانيات إيران القصوى في الحرب. في ثمانينيات القرن الماضي، وخلال الحرب بين العراق وإيران، كانت إيران تستبق كل هجوم بري واسع بعاصفة من التهديد والوعيد بأن جيشها سيدخل بغداد أو البصرة، وسيدمر الجيش العراقي ويسقط نظام حزب البعث، وعندما يبدأ الهجوم الإيراني المزلزل المرعب المرتقب، كان يتبين أنه يتألف من بضع عشرات الآلاف من الشباب المراهقين غير المدربين، لم يكن البعض منهم يحمل سلاحاً، يركضون باتجاه الجيش العراقي فيصبحون لقمة سائغة له، ويفشل الهجوم وينتهي في ساعات أو أيام، ليخرج بعد الهجوم الفاشل أحد القادة الإيرانيين من قيادة الدولة الإسلامية ويخبر الأمة الإيرانية أن هجومهم هذا لم يكن سوى هجوماً تمهيدياً للهجوم القادم الشامل، وكان يتكرر السيناريو نفسه مع كل هجوم إيراني طوال سنوات الحرب.

الحال نفسه يتكرر اليوم، باستخدام نفس اللغة ونفس الكذب ونفس الدجل، حيث لم يتغير الكثير؛ هجوم بمئات الطائرات المسيرة والصواريخ البطيئة ذات التكنولوجيا المتخلفة، وهي كل ما تمتلكه إيران، التي تعيد نفس الكلام عن أن ضربتها القادمة ستكون أعنف.

الإيرانيون أذكياء في إقناع الرأي العام والشارع العربي والإيراني بأن لهم قوة تدميرية هائلة، إلا أنَّ دولة مثل إسرائيل ومن خلفها أميركا تعرف حجم إيران الحقيقي، فلو كانت إسرائيل مقتنعة بقوة إيران لما تجرأت على قتل قادتها داخل القنصلية، ولكن إسرائيل تعلم علم اليقين إمكانيات إيران العسكرية، لذلك لم تبال برد فعلها.

نعم، الصواريخ الإيرانية التي تنطلق من مسافات قصيرة قد تفلت من الدفاعات الجوية إذا انطلقت من مناطق قريبة، وهذا يفسر خوف إسرائيل من القدرة الصاروخية لحزب الله المحاذية للحدود الإسرائيلية، ولكن حزب الله بدوره لا يجرؤ على استخدام قوته الصاروخية ضد إسرائيل، إذ قد تدمر هذه الصواريخ بعض الأهداف الإسرائيلية، ولكن ثمن ذلك سيكون تدمير الجنوب اللبناني بأكمله، والسيد حسن نصر الله يعلم ذلك يقيناً، فهو يتجنب ضرب إسرائيل بالعمق حفاظاً على الجنوب اللبناني.

إسرائيل لم تتأذى من الضربة الإيرانية، وإيران نفسها اعترفت أنها ضربة معنوية وليست ضربة تدميرية ضد إسرائيل، أما إسرائيل فكانت تنتظر بفارغ الصبر الهجوم الإيراني، ومن الحكمة كما قلنا في مقال سابق أن لا تفكر إيران بالرد وتكتفي بتجرع مرارة ضرب القنصلية، لأن إسرائيل كانت تريد إيقاع إيران في الفخ (فخ الرد الانتقامي) الذي صرح به المرشد الإيراني علي خامنئي، وفعلاً نجحت إسرائيل في إيقاع إيران في الفخ، فإسرائيل لها أهداف كبيرة وكانت تنتظر الشرعية المقبولة والمدعومة دولياً، وها هي الشرعية قد حصلت عليها وحصلت على التعاطف الدولي، وسيكون ردها الحقيقي على حزب الله، هدف إسرائيل الأهم في الوقت الراهن، بهدف إبعاد أي ازعاج عن حدودها الشمالية، وستقوم بتصعيد وتيرة الهجمات على حزب الله وإضعاف حزب الله الى أبعد ما يمكن، ولن تتحرك إيران حين تستهدف إسرائيل جنوب لبنان، وستبقى إيران ساكتة لأن الرد مطلب إسرائيلي، فهي قد وضعت نفسها في مأزق، وسترى بأم عينها كيف يذبح حزب الله أمامها وهي ساكتة كما ذبحت حماس من قبل وهي ساكتة، وكما تم ذبح الحوثيين وهي ساكتة، حتى أصبح حال اليمن في ظل الحوثيين كحال شعب غزة: معاناة وانتظار المساعدات الإنسانية بفعل القصف المستمر من قبل طائرات التحالف الغربي، وكأن صورة السيناريو الذي أمامنا، شخص يحمل بندقية بيده اليمنى يصوبها نحو أفراد العائلة وفي يده اليسرى خنجراً يمزق بها أحشاء أحدهم، فإن تدخلوا سيكون مصيرهم طلقات الموت من البندقية وأن سكتوا فأحدهم يذبح أمامهم، ففي الحالتين ستكون المصيبة كبيرة.

هذا هو الوضع والحال الذي وضعت إيران نفسها فيه أمام إسرائيل، التي عجزت الدول العربية أن تجاريها، لكن إيران أرادت أن تجرب حظها مع إسرائيل ونسيت أن صدام حسين ربيب إسرائيل الصغير استطاع أن يذيقها المر في حربه عليها فكيف بإسرائيل نفسها؛ هذا هو الواقع الذي يجب أن نتكلم به بكل صراحة، لأن الخداع لم يعد ينفع . لم يكن ياسر عرفات والملك حسين وأنور السادات وغيرهم من الزعماء العرب جبناء أو متخاذلين، ولم يكونوا خونة لأمّتهم، ولكنهم عرفوا الحقيقة فمدوا أيديهم للسلام ليعطوا لشعوبهم الفرصة كي ترتقي كباقي الأمم.