الأخلاق مسؤولية الأسرة والمدرسة، أما مسؤولية الدولة فهي تطبيق القوانين. فهي لا تعاقب من يكذب، لكنها تفعل ذلك حين يصبح الكذب تضليلاً يعرقل تطبيق القانون، وهي لا تمنع تمييز الأب بين ابنائه في العطايا، لكنها تتدخل حين يمتنع عن أداء واجباته القانونية تجاه ابنائه.

نعم ان الدولة الديمقراطية تشجع الأخلاق، تعمل على توفير الظروف الملائمة لها. والمفارقة أن هذا النوع من الدول تكون شعوبه في الغالب، أكثر مصداقية وشفافية وتلقائية من البلدان المحكومة بنظم شمولية تعطي لنفسها الحق بتطبيق منظومتها "الأخلاقية" وكأنها حزم من القوانين. ومرجح أن يكون السبب هو طبيعة الديمقراطية التي تفي بمتطلبات التعايش والتسامح، وفي الوقت تعطي الأفراد حق اختيار السلوك غير العدواني والمعتقدات السلمية، بينما طبيعة النظم الشمولية أنها تتحكم بتفصيلات دقيقة لحياة الإنسان الفرد تضيق عليه مساحة الشعور بالأمان القائم على الاختيار.

الدولة الشمولية لا تقيس ما يؤثر على حياة المجتمع، لصناعة القوانين، ولا تدرس السلوكيات وتميز بينها على أساس ما توفره من حقوق الافراد، لتشريع الحقوق والواجبات، بل لديها قوالب ثابتة محددة سلفاً، تنطلق منها، سواء اتفقت مع مصلحة المجتمع ام اختلفت معه، وبتعبير أدق هي ترى ان كل مبادئها تخدم مصالح الناس حتى وإن ظهر ضررها. هي لا تؤمن بالضرر الذي يدركه العقل المرن او المنطق غير الجامد وتجربة حاجة المجتمعات وافرادها. فالضرر وفق منظورها هو كل ما يتعارض مع قيمها الأصيلة التي تتخذ مكانة تفوق حتى مكانة القوانين أو توظف القوانين لصالحها.

والإسلاميون، كوجود أيديولوجي، يمتلك خلفيات عقائدية وفقهية تفصيلية، يؤمنون مسبقاً بأن يقينياتهم هي في صالح الناس، لهذا ان نموذجهم للدولة هو نموذج يقيني، ولأنهم ينتمون لمنظومة موغلة بالقدم جرت عليه بعض التعديلات بحسب المتاح، فإنه ايضا نموذج تاريخي يعاد تطبيقه في كل مراحل الحياة بدون النظر الى أولوياتها واستحقاقاتها من مصالح وتصورات واحتياجات انسانية. وجزء من هذا النموذج اليقيني، منظومة الأخلاق والقيم، التي ينطلقون من كونها صناعة دينية مطلوب تربية المجتمع على أساسها.

هنا يبرز المأزق الأكبر الذي واجه جمهور حرّاس العقيدة، حين تحولوا الى حراس على المال وعلى الدولة وعلى الأخلاق، وهو أن الانسان الذي يحمل قابلية الشر، ونزوة الحفاظ على مصالحه، امتلك سلطاناً مفتوح الصلاحيات، أي امتلك القدرة على فعل ما يريد من غير حساب. وهذا يفسر لماذا يسرق الكهنة جهاراً، ويعاقبون من يسرق من "عوام" البشر. إنهم يمتلكون القدرة على تبرير سرقتهم، علاقاتهم الماجنة، قتلهم للبشر... كونهم يمتلكون الصلاحيات الثلاث اضافة الى زعمهم بأنهم حراس العلاقة بين الإنسان وربه.

فليس جديداً أن يمارس الرذائل كاهن له السلطان على السلطان، ويأمر بالفضائل، ويطلب من الناس ان تصدقه، لأنه مسكون في لا وعيه بأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، مقتبسا تلك المكانة من الله الذي يقدم نفسه حارسا لعقائد عباده وأموالهم وحكمهم وفضائلهم. وليس جديداً على النموذج الإسلامي من الكهنة المسيسين، أن الأخلاق التي يصرون عليها هي أخلاق "الجنس"، لأنها تستفز المجتمع، تحرك فيه مراكز القوى الخائفة على "الشرف"، فهي تحرك العقل الجمعي المناصر لهم. بينما قيم الصدق والعدل ورد المظالم والأمانة والزهد... ليست ضاغطة عليهم، رغم أن القران لم يحكِ عن عذاب أقوام قديمة بسبب علاقاتهم الجنسية "السوية" بينما أغرق فرعون وهامان وقارون!

الأكثر خطورة في العراق، أن حرّاس العقيدة والمال والسياسة والأخلاق، يعتمدون منهجية ذكية، هم يحكمون وفي الوقت نفسه لا يحكمون. أحزابهم تحكم، وحين يستوجب الأمر يرفعون شعار أنهم يقومون بالإرشاد وليس الحكم. لهذا ليس متوقعا ان يبنوا حتى النموذج الشمولي للدولة، كونهم أٌقاموا دولة رديفاً لديها السلطان وفي الوقت نفسه قادرة على البراءة من أخطاء السلطان.&