&
برز في دافوس عام 2018 القلق من ظاهرة الشعبوية، وخاصة بعد ان أعلنت الصحافة بأن ثمانية اشخاص يملكون اليوم ما يملكه نصف سكان العالم، أي ما يملكه ثلاثة ونصف مليار شخص. لذلك عقب رئيس وزراء كندا، جستن ترودو فقال: "الاضطرابات (الشعبوية) التي نشهدها اليوم مدفوعة بالقلق والخوف، الخوف مما تعنيه عالم التغيرات السريعة للقوى العاملة وعائلاتهم، الذين يصارعون اقتصاديات اليوم. وطبعا هو خوف وقلق في محله... ولا يمكننا أن نهمل مسئوليتنا لعامة الشعب وهم الأهم، الذين ليسوا هنا في دافوس، ولن يكونوا هنا أبدا."&
وقد تطرقت مجلة دي ايكنوميست البريطانية للموضوع في اعدادها لشهر يناير الماضي، فقد كتبت تحت عنوان، حزب الشعب، تقول: قامت تريزا ماي هذا الأسبوع بتنظيف إدارة حزب المحافظين، لتعيين رئيسا ونائب رئيس وتسعة مساعدين للرئيس، وكلهم جدد. ومع ان حزب المحافظين حصل على42% من الأصوات في الانتخابات الماضية، ولكن يستمر عدد أعضاءه في انقراض مستمر، فقد انخفض الأعضاء من ثلاثة ملايين في خمسينات القرن الماضي إلى مائة ألف اليوم، في حين بلغ عدد أعضاء حزب العمال 570 ألف، والغريب بأن أعضاء حزب المحافظين العاديين ليس لهم صوت في قرارات الحزب بسبب الخوف بأن إعطاءهم& &سلطة أكثر قد تنتهي بصدمة (الشعبوية)، كانتخاب "كوربين" رئيسا لحزب العمال عام 2015.&
وعلقت المجلة على الكتاب الجديد لبروفيسور جامعة نوتردام الأمريكية، باترك دنين، لماذا فشلت الليبرالية؟ فقالت: خلال الأربعة القرون الماضية كانت الليبرالية ناجحة جدا، ولكنها بدأت تتحلل، بخلطة من الفخر والتناقضات الداخلية، حسب رأي البروفيسور، وخاصة في أمريكا، فجذور ايديولوجيتها قد تعفنت وأنتجت بدل تساوي الفرص، أرستقراطية جديدة تجمع جمود الارستقراطية القديمة ولكن بدون اخلاقياتها النبيلة. كما تحللت الديمقراطية نفسها لمسرحية مجنونة، بعد ان قلصت التطورات التكنولوجية بيئة العمل لبيئة مملة وبدون هدف. لذلك توسعت الفجوة بين ادعاءات الليبرالية لنفسها، وبين واقع المواطنة، حتى أصبحت هذه الاكذوبة غير مقبولة اليوم. وليس هناك إثبات أكبر عن ذلك من روى آلاف الطيارات الخاصة، التي نقلت مسافريها إلى دافوس لمناقشة السؤال: كيف ممكن خلق مستقبل مشترك للبشرية في عالم منقسم؟ وهنا يستخدم البروفيسور مفهوم الليبرالية التي ترجع لفكر توماس هوبس وجون لوك، والذي يعتقد المنظرون السياسيون بأنها تنقسم لتيارين، الليبرالية الكلاسيكية، التي تحتفل بالسوق الحرة، والليبرالية اليسارية التي تحتفل بالحقوق المدنية المطلقة، والتي يعتقد الكاتب بأن ليس لها علاقة بواقع حياة البشر اليوم، وذلك لأن الليبرالية أصبحت فلسفة حكم دكتاتوري تتحكم في الشعوب في كل شيء، من حكم المحكمة، وحتى سلوك المؤسسات المالية والتجارية، وإلى قوة السلطات المنفذة للقوانين، فحقيقة النظرية هي ممارستها.& &كما كتب عضو مجلس اللوردات والوزير البريطاني السابق، ديفيد هوول عن واقع الليبرالية اليوم وقال: "الأحزاب السياسية التي خدمت كأعمدة للنظام الديمقراطي في الغرب خلال القرنين الماضيين، بدأت في رحلة انهيار مستمرة، لتذبل أعضائها، وتتحول سياساتها لمهزلة مضحكة ومحتقرة تقريبا في كل مكان. فلم يعد يحترم المواطنون لعب السياسيين الماكرة، وأصبحت أحزابهم وحكوماتهم نكرة مؤسفة. والتحدي الأكبر هو أن الحكومات الوطنية لم تعد في استطاعتها السيطرة على شؤون الدولة لتطفل العولمة في كل زاوية."
ومقارنة بانتشار الشعبوية في دول الغرب وتناقضات ليبراليتها وتباين الثراء، مع الواقع الديمقراطي الشرقي المحافظ الياباني، كتب المؤرخ والبروفيسور الهولندي، إيان بوروما في مجلة بروجيكت سينديكت الإلكترونية يقول: يابان المعاصرة، قد توجهها تحديات، ولكنها اليوم أكثر دولة مساواة، من الولايات المتحدة وكثير من الدول الأوربية، فبمحافظتها على أنها دولة الطبقة الوسطى، استطاعت ان تحصن نفسها ضد طوفان شعبوية مارين لوبين وجيرت ولدرز. ويتساءل الكاتب، لماذا؟ وجوابه: بأن ديمقراطية، ما بعد الحروب اليابانية، في الخمسينات والستينات تأثرت من النخبة الفكرية، التي ناضلت لإبعاد اليابان عن التطرف القومي. فلكي يستطيع الديماغوجيين الشعبويين إشعال الغضب والاستياء الشعبي ضد الأجانب والمفكرين والليبراليين، يجب ان يكون هناك تباين مالي وثقافي وتعليمي مجتمعي واسع. وقد كان ذلك حقيقة اليابان في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، حينما حاول العسكر المتطرفين القيام بانقلاب ضد التجار والمصرفين ورجال السياسة والذين اتهموهم بإفساد الدولة، ودعمهم عساكر القرى، الذين كانت تباع خواتهم إلى بيوت الدعارة لكي يستطيعوا تغذية أطفالهم، في حين كانت النخبة المتعلمة اللبرالية أعدائهم. ولكن اليابان المعاصرة اليوم أكثر مساواة من الولايات المتحدة والكثير من الدول الأوربية، لأن النسبة العالية للضرائب تمنع إرث الثراء، لتقي من تجمع الثراء في أيدي قليلة، ولتقي من تباين الثراء، وزيادة الحقد المجتمعي ضد الأغنياء. وطبعا يختلف ذلك عن حلم الثراء الأمريكي، الذي يفتخر فيه المجتمع بالثراء المادي، في حين يعتبر الثراء عار مجتمعي في اليابان، وعلى حساب فقراء الشعب، والذي هو عادة سبب الاستياء والغضب الشعبي والثورات المتطرفة. كما أن التفاخر بالثراء على حساب باقي الشعب، يزيد الاستياء، ويخلق الإحساس بالإهانة، وفقدان الفخر بالنفس. ففي المجتمعات التي يقدر الإنسان بمستوى نجاحه الشخصي، والذي يتمثل بالمال والشهرة، من السهل الشعور بالإهانة لعدم توفرها، وليكون الإنسان فرد لا قيمة له في الزحام. لذلك يحصل الشعبويين دعمهم من هؤلاء المستائين، الذين يشعرون بخيانة النخبة، وذلك بسرقة الإحساس بالفخر ضمن طبقتهم، أو ثقافتهم أو اعراقهم وطوائفهم. ولكن لم يحدث ذلك في اليابان اليوم، وقد تكون ثقافة المجتمع سببا في ذلك، فالفخر بالذات، والتعالي والنخبة الكاذبة، على الطريقة الأمريكية لا وجود لها في اليابان، فقيمة الشخص تحدد ليس بالشهرة الفردية أو الثراء المادي، ولكن بموقع الشخص في المؤسسة المجتمعية الشاملة، الذي يؤدي فيها واجبات عمله بدقة وإتقان وإخلاص. ولنا لقاء.
طوكيو&
د. خليل حسن، كاتب بحريني