تدور حولها وتتأملها مراراً وتكراراً دون أن يطرأ أي تغييرٍ على فراغها وبرودتها منذ زمنٍ طويل. تلك "الزبديّة" التي اعتادت (ريم) التجوال بها بشكلٍ دوريّ بين منازل الحي قبيل موعد الإفطار. لطالما ظنّت الفتاة ذات السنوات السبع أن الزبديّة مسحورة شأنها شأن قدور الساحرات التي قرأت عنهن في القصص الخيالية، تأخذها محملةً بفطائر السبانخ صوب بيت (أم سالم) فتعود مملوءةً بلفات ورق العنب لتشهق لهذا التحوّل العجيب في محتويات الزبدية. ولا يقتصر هذا التحوّل على المأكولات المالحة، فالسحر يطال أصناف الحلويات أيضاً حيث تطرق ريم باب الجيران ممنيةً النفس بدزينةٍ من "القطايف" عوضاً عن "النمورة" التي تحملها بين ذراعيها.

حدث مرةً أن تعثّرت بمشيتها أثناء العودة فسقطت الزبدية وتبعثرت محتوياتها على جسد الطريق الموشّح بشتى أحجام الحفر. رأت إحدى الجارات المشهد من مكانٍ قريب فأبت إلا أن تستعدي الفتاة لتملأ زبديتها بما هو أشهى وألذ مما سقط في الحفر تاركةً إياها في ذهولٍ وإيمانٍ عميق بأن لكل سقطةٍ منافع، وأن رب العباد لا يبلي إلا لكي يعين لاحقاً.

تفتخر ريم بزبديتها الجميلة المزخرفة بثلاث أشجار وطائرٍ يبدو في الصورة وكأنه يتنقل من شجرةٍ لأخرى. كانت تحسبه طائر السعادة الذي يجلب لها الطعام الشهي من المنازل. لم يخذلها الطائر ولا الزبدية في أي غروبٍ رمضاني. حتى حين تُغضِب أمها فتسلمّها الزبدية بوجهٍ متجهّم دون أن تخاطبها فإنها تعود كذلك بما لذّ وطاب دون أن ينقص نصيبها بسبب ذنبها الذي ارتكبته.

يوم قُصِفَ الحيّ، كانت الزبدية أول ما هرعَت إليه ريم تحتضنها وتهرج بها للخارج قبل أن تُحيل إحدى القذائف المنزل إلى ركام.

تُدرك ريم جيداً أن رمضان هذا العام مختلفٌ عن السنوات السابقة، وأن الخيام المتراصّة حيث تقطن مختلفة عن بيوت الحيّ القديم الذي نزحَتْ منه. ومع هذا لا تفقد الفتاة الإيمان بزبديتها مطلقاً. تنتظر موعد الإفطار بشغفٍ لتحمل الزبدية الفارغة إلى حيث لا تدري، فهي تعرف أحداً من الجيران النازحين سكّان الخيام المجاورة لكنها تعرف أن الزبدية لا تخذلها مطلقاً حتى وإن كانت فارغة. تضعها على باب الخيمة خارجاً وتنتظر الآذان في الداخل.

ينطلق الآذان من مئذنةٍ قريبة من المخيّم، تخرج الفتاة للحظاتٍ ثم تعود مبتسمةً وبيديها الزبدية التي كالعادة لم تخذلها يوماً، ترفعها إلى شفتيها، وبعد أن تتمتم دعاء الإفطار تأخذ رشفةً من زبديّتها المملوءة بماء المطر.