لا نأتي بجديد عن قدسية شهر رمضان الفضيل وما اكتسبه من خصوصية في حياة وتاريخ المسلمين، ولعل أهمها نزول القرآن الكريم في ليلة القدر، التي فضلها الله على ألف شهر، وفكرة الصيام التي تغطي مساحات مثلى لتجليات نفسية ناتجة عن التقليل من الطعام والدخول في عالم الفقراء والجياع وحرمانهم من الطعام، وتكريس مفهوم الامتناع عن الشهوات والحرام بجميع أنماطه التي أوردتها تعاليم شريعة الإسلام وجعلتها من أركان الدين الحنيف.

أنماط سلوكية في اليوم الرمضاني أصبحت ظواهر ثابتة في بلادنا الإسلامية والعربية منها خصوصاً، حيث الغالبية العظمى تتحضر لشهر رمضان فتتجهز العوائل بجميع متطلبات الموائد التي صارت تتسابق في إظهار الإمكانيات الاقتصادية ومظاهر الترف والبذخ؛ موائد تجتمع فيها كافة ألوان الطعام والشراب والحلوى والفاكهة والمكسرات، حيث يتواصل التهام مفردات تلك الموائد بدءاً من موعد الإفطار حتى مطلع الفجر، وفي هذا انقلاب على جوهر المعنى من الصوم والامتناع عن الطعام وتدريب النفس على تحمل الجوع والزهد بالملذات!

إقرأ أيضاً: السعودية... من رجال ألمع إلى مدينة نيوم

العلامة الأخرى التي تكرسها أغلب مجتمعاتنا العربية هي تنافس المسلسلات الدرامية التي تكرس شركات إنتاجها لشهر رمضان باعتباره موسماً سنوياً للتسويق والأرباح، وقد وجدناها تملأ عشرات الفضائيات التي تحرص على وجود نجوم الشاشات بأدوار رئيسة لغرض جذب العوائل التي تبدأ بالمتابعة اليومية والسهر مع أحداثها في جو من الشغف والاسترخاء، خصوصاً أنها تملأ ساعات الليل حتى وقت السحور، وجاءت المسلسلات الكوميدية والاجتماعية لتملأ وقت أغلب العوائل، كما تشكل الديوانيات مراكز جذب لنسبة عالية من الشباب للسهر واللهو والتمتع بما لذ وطاب من الطعام والحلوى والعصائر والدخان. وهكذا تستمر أيام رمضان: سهر في الليل ونوم في النهار، ما يجعل شهر الصوم في رمضان محطة للاسترخاء والكسل النهاري، ويعني أن أشهر السنة عند هؤلاء الذين اعتادوا على هذا النمط في رمضان هي أحد عشر شهراً بدلاً من اثني عشر شهراً!

إقرأ أيضاً: الديمقراطية العراقية: الإله الذي فشل!

وسط مظاهر غنى للموائد وكميات الطعام المبالغ بكثرتها وتنوعها، التي تظهر عبر وسائل السوشيال ميديا أو إعلانات المطاعم التي يزدهر نشاطها في رمضان، تتعالى الدعوات في شهر رمضان بكونه شهراً للخير والكرم والتكافل ومساعدة الفقراء، وتلك لازمة يومية تنتشر في جميع منابر الإعلام الرمضاني، لكن عند المقاربة الواقعية والاستقصائية، تجدها دعوات غير فاعلة في المجتمعات العربية، سيما ونحن نتحدث عن أكثر من 100 مليون إنسان عربي تحت خط الفقر، وهناك 40 مليون عربي يعانون من نقص التغذية حسب إحصائيات منظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة (الفاو).

بعض الدول العربية الغنية، وخصوصاً الخليجية، تقدم برامج للتبرع والدعم للفقراء والمعوزين، لكنها لا تكفي لإنهاء حالة الفقر التي تأكل بالجسد البشري العربي، وتدفع به أحياناً للموت في نزاعات هدفها السيطرة على واردات العيش.

إقرأ أيضاً: البارزاني و"شيزوفرينيا" شيعية

التطورات الحاصلة في عالم التكنولوجيا وثورة الاتصالات وأجهزة البث والإرسال أحدثت تحولات في العادات والظواهر الاجتماعية، وغيبت العديد من التقاليد القديمة. سابقاً كانت العوائل تجتمع لتستمع إلى حكايا الجدات أو كبار السن حول صينية الزلابية والبقلاوة أو القطايف والكنافة وغيرها من أنواع الحلوى المنتشرة في المجتمعات، ويلتقي الرجال في المقاهي على لعبة "المحيبس" والتنافس على الفوز وسط أهازيج شعبية وأمواج المسرات تتراوح بين الفريقين. كان هذا زمان وتلك حكايا وألعاب انسحبت من الحياة الحديثة، فجاءت الفضائيات بفيض برامجها ومسلسلاتها، وجاء الموبايل والإنترنت وألعاب "بلاي‌ ستيشن" بدائل ممتعة لكنها فرضت التوحد بين أفراد العائلة الواحدة، وأزاحت اللقاءات بين أفراد المحلة أو الحي، والتشارك الوجداني والاجتماعي!