ضبابية المشهد وتعقيداته، لا تحجب ركائز مسببات المتغيرات الاقليمية خلال العقدين الماضيين.

ومع كل حدث امني جلل، يطفو على الذاكرة السياسية اعتداءات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 بابعادها وتداعياتها، حين استهدف الارهاب مراكز القرار السياسي والمالي والعسكري في الدولة الاقوى في العالم. وقررت بعدها واشنطن ملاحقة المطلوبين لعدالتها ومعاقبتهم اينما كانوا.

وتسهيلا لهذه المهمة، شاءت الظروف ان يتجمع كل الفصائل المستهدفة في بقعة واحدة هي منطقة الشرق الاوسط، فكانت الحرب الاميركية الكونية ضد تنظيم القاعدة ومسخها الفكري داعش في العراق اولا ثم سوريا. وما ترافق معها من تغيير في خريطة التحالفات السياسية، الظاهر منها والباطن، وبالتبعية خريطة النفوذ ودويلات الامر الواقع!

هكذا دافعت الدولة العظمى في العالم عن امنها القومي، وكبريائها.

اليوم، روسيا، الدولة الحالمة باستعادة امجاد "السوفياتية" تعرضت في الرابع والعشرين من آذار (مارس) الماضي لاعتداء ارهابي استهدف قلب موسكو. اعلن تنظيم "داعش-خراسان" مسؤوليته عن العملية التي ادت الى مقتل العشرات، لكن رواية تبني المسؤولية لم تمنع موسكو من ربط العملية بالحرب ضد اوكرانيا ومن يقف خلفها. والسؤال الان: كيف سترد روسيا الجريحة.. واين؟

وهل هي عودة الى ميدان الانتقام في العراق وسوريا بكل ما توفره الساحتان من اغراءات لاستعراض القوة.. والنفوذ؟

في منطقة النفوذ الاميركي الكردي في شمال شرق سوريا مخيمان اثنان يطلق عليهما مخيمي الدواعش "الهول" و"روج" ويعيش في اجناب البؤس داخلهما نحو خمسين الف لاجئ نصفهم لا يتجاوز اعمارهم ال 12 عاما. وتقول لي مسؤولة اممية معنية بالملف ان الخطر الحقيقي في تلك المخيمات هي “المرأة الداعشية” اللواتي يربين النشا على “عظمة الشهادة” من اجل اقامة الدولة الاسلامية في العراق وسوريا.

سألتها ان الاحداث بدءا من حرب افغانستان وصولا الى مخيمي البؤس تشير الى فراع رسمي لبندقية التطرف تذخر وتستخدم وفق الحاجة؟

اجابتني: التطرف الاسلامي مخلوق خرج من قمقم السيطرة، واي محاولة لاستغلال هذه المخيمات في لعبة التوازنات الاقليمية والدولية كمن يعبث في قنبلة اجتماعية موقوتة.

هذه التطورات تأتي في ظل حالة من اللاثقة بين الادارة الاميركية وقوات “لسد” الكردية المسيطرة على مخيمي الهول وروج .يعيش الاكراد هاجس تخلي واشنطن عنهم في اطار حسابات المصالح الاستراتيجية مع تركيا خاصة مع اندلاع الحرب الروسية الاوكرانية .

وتتزامن ايضا مع دعوات عراقية جادة لانهاء الوجود العسكري الاميركي في بلاد الرافدين بدعوى ان الجيش العراقي قادر على التعامل مع التحديات الامنية، لكن تصريح السفيرة الاميركية في بغداد الينا رومانوسكي بان مهمة التحالف الذي تقوده بلادها لهزيمة داعش لم تنته بعد، يحيي مخاوف من ان يكون “ المارد الاسلامي المتطرف” خرج من قمقم السيطرة الى دروب التوجيه! ووفقا للمؤمنين بهذه القراءة السياسية فإن المنطقة قد تكون مقبلة على حلقة جديدة من العنف تضاف الى المجازر الوحشية التي ترتكبها اسرائيل في غزة.

من باب ربط الاحداث بالوقائع تظهر ايران كنقطة تلاق لمصالح الدول الكبرى وتحديدا في سوريا والعراق.

ويذكرنا التاريخ القريب كيف خرجت داعش من ميدان المفاجأة مسلحة ببضع مئات من المقاتلين لتقهر الجيش العراقي وتسيطر على مدينة الموصل عام 2014. ولم يكن التعاون الامني الاميركي الايراني آنذاك مفاجأة لكثير من المراقبين وتحديدا اولئك الذين ربطوا بين انطلاق ماكينة داعش عام 2014، ومحطة الاتفاق النووي بين ايران والدول الست الكبرى عام 2015.

اليوم بعد عشرة اعوام تعود ماكينة داعش الى الى الميدان، فهل يدخل الرئيس الاميركي جو بايدن الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني (نوفمبر) متكئا على اتفاق جديد مع ايران؟ الاحداث الكبرى تصنع التفاهمات الكبرى.
رحم الله شهداء غزة.