يقضي الإنسان وقته بين همّ وهمّ... تنساب حياته أمامه شريطًا مصوّرًا، ينتهي في لحظة قد تكون غير مناسبة... بسرعة، من دون تبرير، فجأة... بلا منطق، أو لعلّه منطق اللا منطق...
تنقضي الأيام، وتتوقف الساعات، ويجمد الزمن، ولا يبقى غير السؤال عن حكمة هذا الوجود الذي يبدو عبثيًا في سيره، وفي مآله، وفي صيرورته، على الأقل بحدوده المادية. أمَّا بغير هذه الحدود، فما أكثر المفتين والمجتهدين ومدّعي امتلاك الحقيقة الكليّة، وكأن الله يوم أوجد الكون بـ«كان»، كانوا هم له مصاحبين، شاهدين على ما أتى، عالمين بنواياه، وبما كان ليصنعه، وما قد يقود إليه ما صنعه، وأحكامه.
والأمر لا يتوقف هنا، فالعقل الذي أنعم الله به على هذا الإنسان أصبح بلا قيمة أمام بعض المصطلحات مثل «صاحب الأمر»، وغيرها من التي تعني هذه العبارة بالمعنى والمضمون والدلالات التعيينية والتضمينية والتأويلية، وما شئت من مستويات المعنى ومعنى المعنى، وما كان خلف اللفظ، وخلف الشكل، وخلف الهيئة، وخلف الصورة.
والتطور الذي هو سمت الحياة وسنّتها، سواء فهمته كداروين أو لم تفعل، فإنَّ التطور بدلالته على قدرة الكائنات الحية على التأقلم مع طوارئ المستجدات، هو الذي يحدد استمرارية هذه الكائنات، ومصيرها، والوجود الدي ستكون عليه أو ستصبح عليه مع سير الزمان إلى الأمام فالأمام فالأمام... لأنَّ الزمان لا يعود أبدًا إلى الوراء، إلاَّ من كان لهم الجمود والجحود صفة مستقرّة في أعماقهم وغياهب نواياهم وبواطن سرائرهم...
الزمان لا يرحم جامد أو جاحد، ولا يبارك مستقرّ من دون حركة وتجدد... فالحاضر وقت وهمي، والإنسان يقضي حياته في الماضي المنتهي، وكل ما يأتيه حقيقة هو ضمن المستقبل... والفعل الذي يؤتى، وحتى الكلمات التي تنطق أو ترسم إنما هي بمجرد ظهورها قد انتقلت بآنيتها إلى الماضي وقد كانت في مطلعها من زمن المستقبل... ولكن الماضي هنا هو سجل يثبت وجودها ولا يحدّها بإطاره؛ وعليه لا يمكن لماضٍ أن يكون حدًّا وإطارًا ساجنًا لأية كلمة... لأنَّ الكلمة فعلاً ملك الزمن الآتي، وإثباتها في سفر الماضي إثبات لوجودها لا سجنًا لها ولا لحقيقتها ولا لماهيتها...
والعقل كالكلمة، لأنَّ الكلمة الحقة لا تخرج إلاَّ عن عقل. وإذا كانت هي النتاج غير محدودة بإطار، فهل يُحدُّ المنبع بإطار؟! بالطبع كلا... وإذا أشار بعضهم بالقول إنَّ للعقل حدودًا لا يجب أن يخرج عنها، فإنَّ العقل الذي إليه يشيرون هو غير العقل الذي فيه الحد بين الخير والشر، وبين الصالح والطالح، وبين سمو الروح ونوازع النفس وعوالق الدنيا. هو عقل تقدّمت فيه اللام على القاف، ومنحت فيه القاف للعين من نقطتيها نقطة.
وبعض الكلمات يتخذ من نفسه رفيقًا للزمن؛ رفيقًا لا سيّدًا... لأنَّ السيادة لصاحب الكلمة، ولا للكلمة من سيادة إلاَّ بمقدار ما يريد سيّدها، لا بقوتها الذاتية الفاعلة.
هذه الكلمات التي تضحي للزمن رفيقًا، لا تنطلق من منبع واحد. فمنها ما ينبع من عبقرية شاعر، ومنها من مهجة فيلسوف، ومنها من تفكّر عالم، ومنها من نور نزل وحيًا يوحى...
من هذه الكلمات ما قاله الحلاج من أنَّ الأديان كلها أنهار غايتها بحر واحد، وما قاله الدكتور خزعل الماجدي من أنَّ الإنسان إذا فقد بوصلته الأخلاقية فقد كل شيء حتى الدين.
والإنسان في لبنان، فقَدَ القارب والنهر وفنَّ الإبحار وكل البوصلات إلاَّ من رحم ربّك، ومن رحم ربّك في لبنان يكاد يكون هو العدم...
فالإنسان في لبنان لا ينظر إلى الإنسان كإنسان، بل يرى فيه الدين أو المذهب أو حتى الحزب أولاً، ثمَّ اللون ثم العائلة ثمَّ مظاهر المدنية الزائفة المتدليّة منه، ثمَّ الحساب المصرفي، ثمَّ طقوسه الظاهرية ولو كانت نقيضة المضمون... لا شيء جوهريّ يهمّ ما دامت المظاهر كلها والخوارج كائنة على أحسن ما يكون.
والمزايدة على قدم وساق... هذا يزايد في الشتم، وهذا يزايد في الفساد، وهذا يزايد في التشدد، وهذا يزايد في التطرف، وهذا يزايد في التفلّت من القانون، وهذا يزايد في تمكّنه من السخافة، وهذا يزايد في قدرته على التنمّر على الآخر، وهذا يزايد في التسلّط، وهذا يزايد في القشور، وهذا يزايد في فنون الذبح، وذاك في فنون الإبادة، وآخر في فنون الإقصاء، وآخر في امتلاك السنا وفيض الحقيقة...
كل يزايد، والكل في غفلة من أنَّ المزاد لا يكون إلاَّ لما كان له قيمة، وهم في مزادهم هذا كلهم خاسرون، لأنَّهم استبدلوا بالنفيس الرث البالي، وقالوا ما لم يفعلوا يومًا، ونادوا بغير ما يرفعون من رايات، وأهملوا أنَّ السماء إنّما تظلل بظلّها الجميع، وأنَّ اللخ لو أراد لجعل الناس سواسية في كل شيء... في اللون، والشكل، والعلم، والوعي، والإدراك، والعرق، والقومية، والدين، والعقل، والكلمة...
لو ينظرون إلى السماء يتأملونها في فصل الشتاء كيف تضطرب فيها الغيوم بسلام، وكيف تصفو في الصيف بعد أنْ انسحب الغيم متمهلاً مترنّمًا على وقع أصوات الكروان والحساسين، وقد كانت في فصل الخريف قبل الشتاء تودّع وقد حمّلت نفسها أمانة أن تحضن الأرحام والنواميس والأجنّة في باطن أعظم الأمهات... الأم الأرض...
لو ينظر الإنسان إلى السماء يرقب غيومها بألوانها، وتجانسها، وتداخلها، وتناغمها، ورسومها، وتشكّلاتها، لعرف أنَّ التنوّع سنّة الوجود وشريعة الحق والطريق إلى الحقيقة، لأنَّ التنوع قطع فسيفساء تؤلف الوجود الكلّي.
لو ينظر الإنسان إلى الأرض بتمايز نباتاتها، وحيواناتها، وحشراتها، وزواحفها، وطيورها. لو ينظر الإنسان إلى البحار وما فيها، وباطن الأرض وما يثور فيه... لو ينظر الإنسان إلى ما فيه من كون أصغر، لو ينظر، لعرف أنَّ الحياة إنّما وُجدت للغد، ولا يمكن أن تسكن بيوت الماضي. وأنَّها – أي الحياة- تنصر من ينصرها بقدرته على مواكبة ما ترميه به من عواصف وطوارئ ونوازل وصواعد. وأنَّها تقضي على من يعاندها، ويسير عكس صيرورتها، بزيف انتصار!
الحياة قد تبيعك نصرًا في المعارك، لكنَّها دائمًا هي من يربح الحرب!
لذا أيها الإنسان، تمهَّل، تروَّ، تفكَّر، لا تجمد، لا تجحد، لا تقطع شكًا بغير يقين، لا تحاول رأب صدع بكارثة أخدود، وَعِ أنَّ الأمانةَ حملٌ ثقيل...