محمد الحمامصي : شهدت مكتبة الإسكندرية اليوم ندوةً علميةً بعنوان "السياسة الشرعية"، والتي نظمها مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، ضمن الندوات العلمية المتخصصة التي يقيمها مركز المخطوطات بشكل دوري في شتى المجالات التراثية، وتحدث فيها كل من مدحت عيسى؛ مدير مركز المخطوطات، والمفكر المصري د.حسن حنفي، والمفكر اللبناني د.رضوان السيد، والفقيه القانوني د.محمد كمال الدين إمام أستاذ القانون المقارن والشريعة الإسلامية، وأستاذ الفلسفة د.عصمت نصار.

ماذا تعنى السياسة الشرعية؟

بدأ الندوة د.حسن حنفي متسائلا : هل السياسة الشرعية مختلفة عن السياسة المدنية؟، وقال إن السياسة الشرعية كما حددها علم أصول الفقه فى مبادئ الشريعة الخمسة تقوم بـ: الحفاظ على الحياة الذي يعادل حق الحياة فى حقوق الإنسان - الحفاظ على العقل الذي يعادل حق التعليم ضد الجهل والخرافة - الحفاظ على الدين أي القيم العامة التي لا تختلف في الزمان والمكان - الحفاظ على العرض أي الكرامة الإنسانية - الحفاظ على المال أي الثروة الوطنية.

 وقال أن الوعي العام ترسخ فيه فكرة أن السياسة المدنية تقابل السياسة الشرعية، وأن هذه الثنائية خلقت تيارين متصارعين؛ هم التيار السلفي والتيار المدني. ورأى أن هذه الفكرة تساعد على تأصيل الخلاف دون حوار، وزيادة الصراع، خاصة مع سعي كل تيار إلى الوصول للسلطة.

ولفت إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني وجود نوع من الرقابة الشعبية أو ما يعادل وجود معارضة سياسية في نظام الحكم، كما أن السياسة الشرعية تقوم على الشورى، ولا يختلف ذلك عن الديموقراطية الحديثة إلا في الأسلوب.

وأضاف "مع ذلك هناك بعض الأحكام في السياسة الشرعية تحتاج إلى مراجعة نظرًا لاختلاف العصر، أكثر من ألف عام مثل: أولا الحاكمية لله استنادًا إلى "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ". وهم الفاسقون والمنافقون. فالله لا يحكم بنفسه ولكن من خلال الشريعة. والشريعة لا تحكم بنفسها بل من خلال المشرعين. وقد قال المودودي بهذا الحكم نظرًا لوضع المسلمين فى الهند ولتبرير دعوته للانفصال عن الدولة الأم. كما قال به سيد قطب فقط فى "معالم فى الطريق" نتيجة التعذيب إنما الحاكمية للناس والمصالح العامة.

ثانيا أحكام التكفير والردَّة والخروج عن الإسلام لها ظروف سياسية خاصة. فقد كانت هذه الأحكام والإسلام فى البداية ضعيف يقوّى نفسه. أما والإسلام قوي وعدم القدرة على التفتيش في الضمائر كما قال الرسول فإن هذه الأحكام تتوقف. وهي سبب قطع الرءوس من داعش وغيرها.

ثالثا تُفهم الحدود في إطار تاريخي صرف مثل الصَّلب والجلد والرَّجم وقطع اليد ثم اليد الأخرى ثم الرجل ثم الرجل الأخرى، فلا يبقى من الإنسان شيء. كان هذا فى إطار أحكام الرومان والفرس. والآن هي مضادة لحقوق الإنسان والبداهة العقلية.

رابعا وضع المرأة واستبعادها من رئاسة الدولة وإعطائها نصف الميراث ونصف الشهادة وهو بالنسبة لتطور المرأة من الجاهلية تقدم كبير. وقضايا الرق والسبايا مازالت قائمة في داعش وغيرها. فقد تغير العصر. ويمكن للمشرِّع أن يعتمد على مزيد من التقدم كما حدث من الجاهلية إلى الإسلام الأول حتى العصر الحاضر.

واختتم مؤكدا إن السياسة الشرعية ليست ثابتة ودائمة في كل العصور بل تتغير طبقا لروح العصر. ويمكن الاعتماد في ذلك على أسباب النزول، أولوية الواقع على الفكر، والسؤال على الجواب. كما يمكن الاعتماد على الناسخ والمنسوخ أي تطور الأحكام مع تطور الزمان. وهذا ما فعله عمر بن الخطاب عندما أوقف سهم المؤلفة قلوبهم الذي وُضع عندما كان الإسلام ضعيفا. إنما هي الشجاعة الفكرية والأدبية التي تنقصنا، والوقوع في التقليد دون الاجتهاد، وعدم الاعتماد على مصادر القوة في التأصيل مثل "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن"، وأن المصالح العامة هي أساس التشريع. وعدم الاعتماد على التعليل، أن الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا. وقد تغيرت العلل دون أن تتغير الأحكام.

السياسة الشرعية وعمل الدولة

وفي كلمته التي جاءت بعنوان "السياسة الشرعية وعمل الدولة: رؤية جديدة"، تحدث د.رضوان السيد عن تطور مفهوم السياسة الذي صار مصطَلَحًا للتعبير عن فن إدارة الدولة أو الشأن العام في المجال الإسلامي الوسيط. وقد استعُمل مفهوم السياسة لدى الفلاسفة الإسلاميين في القرنين الثالث والرابع للهجرة بمعنى الاجتماع المديني، وأساليب إدارته وأنواع الرئاسات فيه.

وعندما بدأ الفقهاء استخدام المفهوم في القرن الرابع، وضعوه بدءًا في مقابلة الشريعة بالمعنى الفقهي والقضائي، مما تسبب في الإشكالية الحالية. فقد استنكر الشافعية استخدام مصطلح السياسة، بينما اتجه الحنابلة والمالكية والأحناف لاستخدام مصطلح "السياسة الشرعية". أما بعد القرن الخامس، بدأ الاعتراف بالاختلاف بين النهجين؛ السياسة النبوية، والسياسة الملكية، إلى أن ظهر ما تم اعتباره نهجًا مستقلاً، وتناوله الطرطوشي في كتاب "سراج الملوك"، وهو وجود سياسة نبوية وأخرى إصلاحية.

وأوضح السيد أن الحاجة للاعتراف بالسياسة ظهرت بسبب التقصير من جانب الفقهاء في تحقيق العدالة عن طريق التضييق في الأحكام الفقهية، واستغلال طائفة من السياسيين هذا الأمر بما لا يتوافق مع حكم الله ورسوله. ومن هنا جاءت مرحلة فتح الآفاق والاعتراف بوجود مجال مشترك بين الفقهاء والساسة. وقد جاء أول كتاب كامل في السياسة الشرعية ليؤسس للسلطة على مبدأين؛ هما: أداء الأمانات، والحكم بالعدل.

وقال "إنّ هذا الفصل بين السياسي والديني (لاختلاف الطبيعة والوظائف) مع محاولة ترويض السياسي الذي قد يتردَّى فيعودَ مُلكًا طبيعيًّا، هو الذي دفع الفقهاء إلى استمرار الضغط على السياسي بمقولة السياسة الشرعية من جهة، ومقولة مقاصد الشرعية من جهةٍ أُخرى. بيد أنّ هناك مَنْ ظلَّ يرى (مثل السبكي والطرسوسي والمقريزي والسخاوي) أنّ الأمل ضعيفٌ في حدوث السلاسة أو الاتّساق بين السياسة والشريعة - إلى أن حدث شيءٌ من ذلك في الزمن العثماني".

وفي الأزمنة الحديثة دخل إصلاحيو الفقهاء بحماسٍ في مشروعات التجديد السياسي، والتجدد الديني. وقد افتتحوا ذلك بالحديث عن الأمرين معًا: السياسة الشرعية ومقاصد الشريعة باعتبارهما أحياناً مترادفَين. ومع الاعتقاد بفقد الشرعية والاستماتة في استعادتها ظهر سبيلان لدى ذوي الاهتمام الهوياتي: سبيل التلاؤم والتوفيق، من طريق القول بتقنين الفقه ولاحقاً تقنين الشريعة. وسبيل القطيعة النضالية مع المستجدات ومع نظام العالم. لقد كان منطق أهل التقنين أنه كافٍ لاستمرار الشرعية، وأنّ هذا الأمر هو السياسة الشرعية بعينها. بينما رأى إحيائيو القطيعة أنّ منطق الحاكمية الإلهية يقتضي حكمًا تطبيق الشريعة، وهذا هو النظام الكامل الذي لا بديل عنه لاستعادة الشرعية بالشريعة المعصومة، بدلاً من الحلول الترقيعية. فمنطق السياسة الشرعية منطق فصل بين الديني السياسي، والمطلوب الدمج والاندغام وسيطرة الشريعة في شتى المجالات. لقد دفعت السياسات غير النافعة وغير الرشيدة في كل مكان أهل الملاءمة بالتقنين إلى أحضان أهل القطيعة والنضال. ونحن اليوم بين صيغتين للدمج والاندغام تحت سقف وسيف القطيعة: صيغة الإمامة، وصيغة الخلافة!".

وأكد أن الإسلاميين يهتمون بتطبيق الشريعة وليس وضع الناس الذين ستطبق عليهم تلك الشريعة، مبينًا أن الدين والشريعة ليسوا في خطر، ويجب الالتفات إلى الشأن العام وتحسين الكفاءة في إدارته.

رضوان السيد يتحدث

 

الآيات المختصة بالتشريع

وقال د. حسين زهيري، والذي أدار المحاضرة الثانية من الندوة، إن الآيات التي تتحدث عن القصاص والحدود في القرآن هي تسعة آيات فقط من أصل 200 آية اختصت بالتشريع، من إجمالي 6236 آية هي عدد آيات القرآن الكريم، مما يدل على قصر نظر واضح يلهي الناس بالحدود على الأصل في المسألة وهو الحقوق، ويعمي العيون عن السياق الأكبر، وهو إيجاد الحلول لمشاكل الاقتصاد والمجتمع وغيرها، وهو ما تنشغل به السياسة، فيعتقد البعض أنها تغض الطرف عن الشريعة.

وأضاف: "إننا لم نبتعد عن الشريعة والدين في يوم ما، بل نحن غارقون فيهما، فلا نجد في مجتمعاتنا اليوم إلا والطبيب والمهندس والحرفي والبائع وغيرهما يتحدث عن الدين والسياسة، لماذا لا يحدثنا المهندس أو الكيمائي عن العلم الذي يدرسه ويشتغل به، وأفكاره في التطوير والاستفادة من ذلك العلم، لأنه لا يفهم فيه فانشغل بغيره".

وفي كلمته التي أتت تحت عنوان "كتابات مجهولة في السياسة الشرعية"، قال د. محمد كمال الدين إمام، الذي عمل أستاذاً ورئيسا لقسم الشريعة بكلية الحقوق في جامعة المنيا، وعضو اللجنة القومية للإصلاح التشريعي، أن المفهوم العلمي للسياسة الشرعية يتحرك في ثلاثة محاور؛ الأول يتعلق بضبط المفهوم من خلال النظرية الفقهية الأصولية، والثاني يتناول عرض المفهوم من خلال الكتابات والمؤلفات والدراسات من خلال الواقع المصري فيما قبل عام 1950، والمحور الثالث يتناول المفهوم كتطور منهجي مرتبط بالعملية التعليمية في الجوهر والأساس.

وأشار إلى أن الذين يدرسون السياسة الشرعية يخلطون في بعض الأحيان عمداً أو عن غير عمد بين أمرين رئيسين؛ الأمر الأول ظاهرة السياسة الشرعية، والثاني علم السياسة الشرعية، وأن هذا الخلط يؤدي إلى أخد النتائج التي تزدحم بها الأفكار التي تدور حول السياسة الشرعية بشكل لا يساير الواقع التاريخي، ولا المنظور الفقهي.

وأوضح أن ظاهرة السياسة الشرعية عاشت مع تجربة الإسلام الأولى منذ نزول القرآن على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكان ظهورها من خلال أمرين؛ الأول القرآن نفسه والثاني فهم الصحابة لتصرفات الرسول، ومن هنا بدأت عملية التأسيس لهذه الظاهرة.

أثناء القاء المحاضرات

 

السياسه الشرعية في الدين الاسلامي

وناقش د. محمد كمال الدين ظهور السياسة الشرعية في الدين الإسلامي، بداية من فكرة إطاعة أولى الأمر التي وردت في القرآن الكريم، من هم، وتخصصاتهم، وشروط اختيارهم، والجهة الموكولة لها أمر اختيارهم، وهل يتعلق اختيارهم بالأعلمية في الدين أم في شؤون الناس، فيكون الطبيب والمهندس والفكي والاقتصادي جزءا، ويمثلون جميعهم في نهاية المطاف مجمع الخبرة التي تدبر شؤون الحياة وتفهم مصالح الناس.

وقال إن تطبيق الحدود الخطأ فيه ليس قانونياً أو سياسياً، ولكن خطأ في المنهج الأصولي الفكري الذي ينظر للحكم الشرعي بأنه الحلال والحرام، وأن الأحكام التكليفية الخمسة هي التي شغلتنا، ولم يشغلنا الحكم الشرعي الوضعي؛ الذي هو إما قانون الطبيعة وإما تصرفات الناس، وأن هذه الحركة هي التي تنقل الحكم من كونه خطاباً مستديما من عصر الرسول إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إلى الحكم باعتباره حالة عينية تتعلق بمجتمع أو فرد أو بزمان أو مكان.

وأكد أن الحكم الشرعي في جوهره عند الأصوليين ليس هو الخطاب وحده، بل الخطاب من خلال الحكم الوضعي الذي يمثل قوانين الله في الكون، وأن من هذا المنطلق عندما يقول شخص بتطبيق النص يقول آخر من خلال الحكم الوضعي بالتدرج في تطبيق النص، ويقول ثالث أن الواقع الاجتماعي ليس فيه محل لتطبيق النص، وهو لا يعني إلغاء النص.

وقال عندما يكون الشيء غير منضبط لا يمكن أن ننظر في إمكانات الاستفادة منه، وأن تحديد المصطلح هنا يعني تحديد أمرين؛ ماذا تقصد بما تقول، وما هي المرجعية لما تقول، مؤكداً أنه إذا غابت المرجعية بغير سند علمي، غاب المصطلح. 

وأضاف: من خلال هذه الرؤية انتشرت السياسة الشرعية خلال عصر الرسول، وكان صحابة الرسول عندما تأتيهم الأوامر ينظرون إليها من خلال السياسة الشرعية ويستخدموا العقل، وأن هذا الربط الدقيق بين الحكم الوضعي والتكليفي أصبح وثيقة مدنية أو دستور الدولة الأولى.

وانتقل د. محمد كمال الدين من مفهوم السياسية كظاهرة فطرية اجتماعية إلى كونها علم يُبحث فيه، مشيراً إلى رأي الشافعية الذين اغلقوا الباب أمام تمدد الحاكم والسياسة الشرعية خوفاً من الجور وحرصاً على الرعية، ودعوا إلى فكرة أن مقاصد الشريعة لا تتعلق بمصالح الأديان وإنما بمصالح الإنسان، موضحاً أن كل دين له مطلقاته بين أتباعه ولا دخل له بالأخرين، أما المقاصد التي هي عنوان السياسة الشرعية فهي عامة ولا تتعلق بدين معين.

وأوضح أن السياسة الشرعية تحولت إلى علم كتب فيها العديد من العلماء، لضبط حركة المقاصد ذاتها باعتبارها جزء من التشريع العملي للمسلمين، ولاتخاذها فلسفة مقاومة في مواجهة الأعداء، متخذاً بعض الكتابات كمثال؛ مثل زيد الإبياني الذي شرح مؤلفات قدري باشا التي ترجمت للفرنسية، و كتابات "السنهوري"، بالإضافة إلى كتابات "بيرم الأول"، وخاصة " نبذة في بعض القواعد الشرعية المرشدة لحفظ الإدارة الكلية" الذي صدر عن مكتبة الحلبي في مصر عام 1906، وكتاب تعريف السياسة الشرعية في حقوق الراعي والرعية" لعبد الله جمال الدين، وكتاب "نظرية السياسة الشرعية" للشيخ محمد البنا والذي يعد أكبر كتاب في السياسة الشرعية صدر عام 1936 ، بالإضافة إلى كتابات محمد علي السايس، ورزق الزلباني، وغيرهم الكثير ممن تناولوا موضوع السياسة الشرعية.

وفي كلمته التي جاءت تحت عنوان "السياسة الشرعية بين التأصيل والتأثيل"، قال الأستاذ د. عصمت نصار أنه لا توجد حقيقة على الإطلاق يمكن الاعتماد عليها في فصل الخطاب، ولكنه اجتهاد ينصب حول المفاهيم لردها لأصلها، والأفكار لتأثيلها، مؤكداً أن ما نطلق عليه السياسة الشرعية علم مدني، وأن الكتابات فيه عبارة عن مجموعة من الاجتهادات القريبة لروح الشريعة منها إلى النص.

وتناول "نصار" مصطلح الخلافة، وطرح المعتزلة وأهل السنة والفكر الوهابي له، بالإضافة إلى مصطلح "الإيمان"، ونقاش أهل السنة والجماعة حول من هم أهل الحل والعقد، بالإضافة إلى مصطلحات الجهالة والجاهلية والكفر، والحاكمية الربانية عند الوهابيين، وغيرها من الدلالات والمصطلحات والمفاهيم التي طُرحت دون سند شرعي أو عقلي، الأمر الذي أصاب الرأي العام بما نطلق عليه "أوهام الفكر أو المعتقد"، وأدت لتشويه صورة الإسلام، عندما خرجت هذه المفاهيم من طور الخطاب إلى طور المشروع والتطبيق على يد الجماعات الإرهابية المسلحة.