عبد المنعم سعيد

مضت 4 سنوات على الثورة المصرية اختلف فيها الحال منذ لحظة البداية في 25 يناير (كانون الثاني) 2011 وحتى الآن. انتهت الرومانسية الأولى وحل محلها أن الأحلام أحيانا تصير كوابيس. وبالتأكيد، فإن الثورات والهبات الكبرى لا تحدث هكذا فجأة، ولكن لا بد وأن يكون هناك خلل هيكلي في بنية الدولة تدفع الملايين للخروج إلى الشوارع والميادين. هذا الخلل سبق مناقشته في مواضع أخرى، ورغم تعدد العوامل والمحفزات، فإنه لم يكن بينها ما شاع بين «الثوار» والعامة حول أسباب ما جرى. فالقصة الأولى التي ذاعت كانت حول الفساد والنهب الذي جرى من قبل النخبة، ولكن هذه سقطت فيها القصة وراء الأخرى، بداية من حكاية المليارات التي تم اختلاسها ووصلت إلى 71 مليار دولار في حالة الرئيس مبارك، وحتى مبالغ أقل ما لبثت أن حكمت فيها المحاكم بالبراءة.


المدهش أن أكبر الأسباب التي ذاعت كانت تزوير انتخابات 2010، ومع ذلك لم يتم دعوة اللجنة العليا للانتخابات للاستعلام. اكتفى الجميع بإلقاء التهمة على النظام أو على المهندس أحمد عز، أمين التنظيم بالحزب الوطني الديمقراطي، ولكن الرجل جرت محاكمته على اتهامات أخرى لا علاقة لها بالموضوع.


ولكن القصة الأعظم التي سيطرت على الحياة السياسية، فقد كانت قصة «التوريث». ومن ناحيتي فلم يكن يهمني ما إذا كانت هناك أحلام لدى السيد جمال مبارك؛ أن يكون وريثا لوالده أو لا، ولكن ما كان يهمني دائما هو أن الواقع السياسي، وبالذات موقف القوات المسلحة المصرية، لن يسمح أبدا بحدوث «التوريث». وكان ذلك ما ذكرته دائما لمراسلين ومذيعين أجانب، وعندما رددت ذلك داخل وسائل الإعلام المصرية كلها، كان ذلك مصنفا باعتباره وسيلة ذكية للدفاع عن النظام.


وفي الحقيقة، إن هذا الموقف كان نتيجة اختبارات شتى، والأهم من ذلك واقع سياسي يجعل أهم القوى السياسية في البلاد تعارض هذا الموضوع دون التواء أو إخفاء. ما اختبرته شخصيا؛ فقد حدث في عدة رحلات إلى الولايات المتحدة في حضور أمين سياسات الحزب الوطني كانت تقتضى عرض القضايا ووجهات النظر المصرية والعربية على مؤسسات مختلفة، وكان السؤال حول توريثه مطروحا دائما، وكانت إجابتي دائما أمام الجميع أن الرجل لن يكون رئيسا لمصر «لأن مصر بلد مؤسسات، وهى ليست سوريا». وكانت هذه الإجابة هي التي طرحتها في مؤتمر عن مصر عقد في مركز «الميريديان» عام 2004 في العاصمة واشنطن. وفي طريقي إلى واشنطن كانت هناك محطات أخرى كان موضوع «التوريث» مثارا بقوة في كل منها، ومرة أخرى كانت إجابتي أو تعليقي الذي صار مفصلا في واشنطن؛ أن الرجل لن يكون رئيسا للجمهورية لأن مصر بلد للمؤسسات وأنها ليست مثل سوريا.
وكانت المفاجأة بعد فترة قصيرة أن الرئيس السابق حسني مبارك راح يردد نفس الكلمات في أحاديث صحافية وتلفزيونية. والحقيقة أنه طوال الخمس سنوات الأولى من الألفية الثالثة لم أسمع من أحد ما يؤكد الموضوع، إلا من إشارة عابرة من الدكتور أسامة الباز يتساءل فيها عما إذا كان أمين السياسات فيه سمات رئاسية أو كما قالها بالإنجليزية «Looks Presidential». وكانت إجابتي هي أن القضية ليست عما إذا كانت فيه سمات رئاسية أم لا، وإنما هي أن شرعية النظام الجمهوري كله لن تقوم لها قائمة.


والحقيقة، إن ذلك كان هو ما كان يجري بالفعل حيث بدأ النظام يفقد شرعيته في السنوات التي تلت الانتخابات الرئاسية عام 2005 نتيجة اليقين الذائع بعملية «التوريث». ولم يكن ذلك تخمينا، وإنما معلومات استقيتها من مصادر مباشرة؛ حيث أجريت حوارا مباشرا مع اللواء عمر سليمان، رئيس الاستخبارات العامة، لـ3 مرات كان آخرها في نوفمبر (تشرين الثاني) 2010؛ حيث سألت سؤالا مباشرا عن «التوريث»، وكانت الإجابة هي أن الرئيس هو في الأول والآخر جندي، «والجندي لا يترك مكانه أو مسؤولياته». واستنادا إلى هذه المعلومات قمت بنشر دراسة عن «لغز الخلافة في مصر» في مجلة «جينز إنتلاجنس ريفيو» المعروفة، استبعدت فيها تماما سيناريو «التوريث»، ورجحت سيناريو استمرار الرئيس في الحكم تحت عنوان «الأمر الواقع يستمر».


وفي 2010 وأثناء عرض موضوع التمديد لقانون الطوارئ قمت بجولة على كبار المسؤولين أدعوهم فيها إلى إنهاء حالة الطوارئ والاعتماد على قانون لمكافحة الإرهاب، وهو أمر طرحته على المجلس الأعلى للسياسات وفى مقال مباشر بـ«الأهرام»، وأثناء ذلك جرى حديث مطول عن موضوع «التوريث» مع الدكتور فتحي سرور، رئيس مجلس الشعب الأسبق، الذي أخبرني أنه لم يسمع أو يطرح عليه الأمر من أي طرف، وكل ما يعرفه أنه منذ فترة حضر فيها اجتماعا كان فيه قادة للقوات المسلحة، فقال له الرئيس السابق إن واحدا من هؤلاء هو الذي سيخلفه. وفي نفس الجولة جرى حديث مماثل مع السيد صفوت الشريف قطب نظام مبارك، والأمين العام للحزب الوطني الديمقراطي ورئيس مجلس الشورى والمجلس الأعلى للصحافة ولجنة الأحزاب، الذي أكد أنه لم يسمع أبدا من الرئيس لا صراحة ولا إشارة شيئا عن موضوع «التوريث».


إزاء هذه المعلومات بات واضحا خلال العامين الأخيرين أن موضوع «التوريث» كان يغطي على خطر آخر أكثر أهمية وهو موضوع «التمديد». من خلال طرح الرئيس لنفسه لفترة رئاسية أخرى، وكان ذلك كارثة بكل المقاييس، قد يرى بعضنا لها أسبابا متنوعة، إلا إنني رأيت سببا مهما، وهو أنه مع تقدم سن الرئيس، فإن معنى ذلك خلق فراغ سياسي بدأت أطراف عدة تحاول أن تملأه لصالحها أو تراه ملائما لها.


وقبل أسبوع واحد من ثورة 25 يناير؛ أي في صباح يوم الثلاثاء 18 يناير، جرى الاحتفال في القصر الجمهوري بالعروبة بتقليد الدكتور مجدي يعقوب قلادة النيل وفاء لما قدمه للعلم ولمصر. وقبل نهاية الاحتفال بلحظات اقترب عدد من رؤساء الأحزاب من الرئيس وعبر كل منهم عن مبايعته للرئيس لكي يقود البلاد لفترة رئاسية سادسة. فما كان من الرئيس إلا الشكر والابتسام ثم مغادرة القاعة بعد قليل. ولكن الشهادة الكبرى في الموضوع جاءت أثناء محاكمات الرئيس مبارك عندما شهد المشير حسين طنطاوي في المحكمة مرتين بجلاء ووضوح كاملين أنه لم يسمع أبدا من الرئيس لا تصريحا ولا تلميحا بأنه ينوي «توريث» الرئاسة لابنه. المؤكد أنه كانت هناك أسباب كثيرة لما جرى في مصر خلال السنوات الأربع الماضية، ولكن «التوريث» لم يكن واحدا منها. هذه كلمة لمصر وللتاريخ؛ اللهم فاشهد.

&

&

&



&