سمير عطاالله

الخامسة بعد ظهر الأربعاء كان موعدنا مع توقيع كتاب السناتور جورج ميتشل "المفاوض". قبل وصوله امتلأت القاعة في "واشنطن سكوير"، نيويورك التحتا، بالوجوه الأكاديمية، بمعالم أنكلو سكسونية.

وكان هناك أيضاً صحافيون، بينهم الزميلة لورين من الأمم المتحدة، كما قدّمت نفسها. ودارت المسز لورين على الحضور تُبلغهم نبأ أكثر أهمية من توقيع الكتاب: لقد قرّرت التقاعد من أجل أن تُفسح في المجال "للجيل الجديد". لم تحدّد لورين مَن تعني بـ"الجيل الجديد"، أما سبب التقاعد فقد عَزَته إلى رغبتها في الانصراف إلى حياة هادئة على الساحل. العمر، 96 عاماً، ووالدتها كانت من أصدقاء أينشتاين.
&
هذه نيويورك. والدليل الآخر على أنك في نيويورك، القلم الذي يُوقِّع به السناتور ميتشل الاهداءات: "بيك" سائل، غير ناشف. فلنبدأ بالنصف الأخير من الكتاب: جورج ميتشل محامياً. ثم قاضياً اتحادياً. ثم عضواً في مجلس الشيوخ. ثم زعيماً للغالبية الديموقراطية. ثم الرجل الذي أنهى قروناً من النزاع في إيرلندا. ثم رئيس شركة ديزني. ثم وسيط إدارة أوباما في النزاع العربي - الإسرائيلي.

في هذه الصفحات، نرى جورج ميتشل مشرّعاً مهمّاً في مجلس الشيوخ، وجزءاً من فريق يحاول تغييراً في هيكل أميركا السياسي بزعامة إدموند ماسكي، ونراه إلى جانب فرانك سيناترا في حفل عائلي، أو سواه. ونراه مع مارغريت تاتشر. ومع كارتر. وريغان.

لكن النصف الثاني من الكتاب ليس الأكثر أهمية. ربما هو مهمّ بالنسبة إلى سياسات أميركا وسياسات العالم. ولكن دعْنا من السياسة الآن. ولو عاد الأمر إليّ، فدعنا منها أبداً. "شي بيقَرِّف" كما قال الجنرال عون ذات مرة.

أحبُّ أن أذكَّر بسبب الاهتمام بالسناتور ميتشل الذي كتبت هنا قبل ثلاث سنوات عن غداء معه، كان الحديث خلاله، معظم الوقت، عن مِنتهى سعد، التي من بكاسين، الحارة الفوقا. كان أمين سعد، بعدما رُزق ثلاث بنات، يتوقّع مولوداً ذكراً تضعه زوجته هيلدا. أطلّ المولود، فإذا ابنة رابعة. ضرَب كفاً بكفّ وسمّاها منتهى. كفى. "خلَص". يقول السناتور ميتشل وهو يروي حكاية أمه التي هاجرت من بكاسين إلى ووترفيل، ولاية ماين، أوائل القرن الماضي.

يكتب جورج ميتشل - ويلفظ - اسم مِنتهى بكسر الميم، كما كانت تُنادى، بعيداً عن أصول اللغة العربية. في أي حال، كانت مِنتهى سعد تجيد لغة واحدةً: الأمومة. عندما وصلَت إلى ووترفيل عثرَت على عمل في مطعم، غاسلة صحون. لكنها سرعان ما لاحظت أن المدينة تعجّ بالفبارك والأنوال، فتعلّمت الحياكة على الآلة. من يومها إلى يوم تقاعدها. ظلت مِنتهى تعمل من الحادية عشرة ليلاً إلى السابعة صباحاً، موعد تهيئة الأبناء للذهاب إلى المدرسة. وهذه كانت المدرسة المارونية في ووترفيل، والخوري عوّاد. ولن ينسى جورج ميتشل كيف قرَصه الخوري عوّاد من أذنه خلال القداس، عقاباً على تقصيره في الخدمة.

تزوّجت مِنتهى سعد من يتيم إيرلندي يُدعى جورج كان في رعاية عائلة لبنانية. جورج، الأب، كان عاملاً (شغّيلاً) يُعاني غالباً "ذلّ البطالة". وفي النهاية أصبح ناطوراً في جامعة كولبي، ثم رئيس جميع البوّابين. وقد أتقن عمله أي إتقان. يقول السناتور ميتشل عن الأعمال التي عملتها العائلة أيام العوَز: "عملنا في توزيع الصحف وفي مسح الأرض وفي جرف الثلج وفي غسل الصحون".

يخطر للمرء وهو يقرأ عن عائلة لبنانية في ووترفيل كتاب السيدة صونيا فرنجيه عن عائلتها "الاقطاعية" في لبنان نفسه. هنا، لكي تصير زعيم الغالبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ، أو لكي تُعطى فرصة كتابة التاريخ في إيرلندا، لا ترِث شيئاً. أمك، بنت أمين سعد من بكاسين، وأبوك يتيم إيرلندي لم يعرف أباً ولا أماً. لكن الإرث أيضاً ليس عبئاً. قد يقع أحياناً لجورج دبليو بوش، أو قد يقع لهيلاري كلينتون. تحفر مكانك بيديك، وريثاً أو ابن مِنتهى سعد. وقد أخبرت السناتور ميتشل بأن حكايته تتكرّر في بكاسين الآن. عصاميّون كثيرون، لم يبلغوا تلّة الكابيتول، لكنهم خرجوا من وادي بكاسين إلى تلال كثيرة في الحياة.

وقلت للسناتور ميتشل إن عليه أن يلتقيهم عندما يأتي إلى لبنان لأنه سوف يرى في ظلالهم مِنتهى سعد، التي كانت ترافق أولادها إلى مباريات رياضية لا تفهم منها شيئاً، لكنها تفهم أن المهم جداً لمستقبل أولادها أن يشاركوا فيها "مثلهم مثل ولاد الأمركان".

لا مرارة في سرْد جورج ميتشل لهذه السيرة التي بدأت في ووترفيل في غرفة واحدة تضمّ الأم والأب وثلاثة أولاد وبنتاً. ولا مفردات بلّورية مكبّرة. ولا تصفية حساب مع العذاب. سرْد. مجرد سرْد تخرج منه في نهاية الرواية بأن لها بطَلين: مِنتهى سعد وعدالة الفرص. وأما جورج، فمجرد ساعٍ آخر في مجتمع يقوم على قاعدة واحدة، العمل والابتكار. ثم المزيد من العمل.

تجاوَر المهاجرون اللبنانيون والإيرلنديون أوائل القرن الماضي يجمع بينهم قوْس مشترك: الفقر والشعور بالغربة. ولكن من تلك الأحياء البائسة، خرج عدد كبير من الشيوخ والنواب اللبنانيين، وخرج كينيدي وريغان وكلينتون وأيضاً جورج ميتشل. وبدل أن يدعم جورج الثورة في إيرلندا، والعنف والقتل والثأر والمرارة، قرّر أن يفعل المستحيل: تحقيق المصالحة.

الفارق بين العقل والدم. بين الرحمة والغلوّ. يتقاتل الناس في البلدان ويتصالحون في أميركا، منصرفين، كل على طريقته، إلى حياة متشابهة وسويّة. تبدأ بائع ملابس داخلية متجوّلاً، مثل وارن بافيت، ثم تصير أسطوري الثروة، ثم تتبرّع بثلاثة أرباعها لأناس لا تعرف عنهم شيئاً. "العائلات" هنا أقامت أهم الجامعات وساهمت في غوْث ملايين المحتاجين، من غير أن تطلب إقطاعاً أو نفوذاً. دعْكَ من شواذ القواعد. لم يحدث في بلد آخر أن أصبح مخلوق أغنى رجل في العالم، ثم وضع ثروته في جراب ورماه برمّته إلى الغير. بيل غيتس.

يُسمي الأميركيون هذا النوع: "الناس الحقيقيين" "The Real People". كالأب بيار والأم تيريزا والبابا فرنسيس ويعقوب الكبوشي ونصرالله صفير. "الناس الحقيقيون" الذين يُقيمون ممالك التواضع على أنقاض سلطنة الغرور. "صلّوا لأجْلي، فأنا مريض" ناشَد فرنسيس الأرجنتيني، "بُسطاء الأرض".

The Small People كما يُسمّون في أميركا. أو بالأحرى في المجتمع الأميركي. والفارق أن الأخير صمد إلى جانب قيَمه، فيما انزلقت الكارتيلات إلى متاهات الحروب. في حين أن هذا لم يحدث في لبنان والعالم العربي والعالم الثالث، إذ سبق المجتمع الأنظمة في الانحلال والانهيار واحتقار الأصول الإنسانية. فالأم انتقلت من مِنتهى سعد إلى الآسيويات.

المجتمع الأميركي هو الذي أوصل باراك حسين أوباما إلى البيت الأبيض. لم يكن في ذلك إعلان جمهورية "كاملوت" السعيدة، فالشرطة لا تزال تقتل السود، وأكثرية نُزلاء السجون ذوو البشرة نفسها. ولكن في المبدأ يتمكّن ابن الكيني حسين أوباما من طلَب الرئاسة، ويتمكّن ابن مِنتهى سعد من الاعتذار عن الترشّح لها. يومها كان يقدّم شؤون العائلة الصغيرة. وعندما يحدِّث جورج ميتشل عن عائلته، ترى في وجهه ملامح مِنتهى، التي كانت "تعود في السابعة من ضجيج الماكينات ورئتاها مليئتان بنِدَف القطن، وبدل أن تنام، تبدأ نهاراً جديداً كأمّ". "نادراً ما كانت أمي تنام"، يقول جورج الابن.

قرأت "المفاوِض" كمَن يقرأ تحقيقاً كتبَه رزيارد كابوشنسكي. أي بالعودة إلى الفقرات والأسطر للتأكّد من أن المسألة تواريخ وناس وبشر، وليست رواية يبحث مؤلّفها عن مزيد من الدراميات. ودوّنت بعض الأسماء والملاحظات لكي أسأل عنها هذا الرجل الهادئ مثل شجرة صنوبر في حرش بكاسين: "في سنوات الكلّية الأولى عملتُ مدبّراً في جمعية خيرية لقاء وجبات مجانية. ثم عملت مناظراً في الكلّية لقاء السكن المجّاني. وعملت أيضاً خلال الصيف. وصيف 1953 عملتُ حارساً ليلياً في مصنع للورق بين الحادية عشرة ليلاً والسابعة صباحاً، ثم في وظيفة أخرى من السابعة والنصف إلى الثالثة والنصف بعد الظهر، وذلك كعامل بناء، وعندما أمرُّ أحياناً بالمَمَرّ الذي أنشأته في كلّية كولبي، أشعر بالاعتزاز".

إلى الغداء بعد أسبوع، يطرح السناتور ميتشل الأسئلة عن العالم العربي. وأما أنا فأريد استيضاح جورج عن بعض الأشياء الأكثر عمقاً وحقيقة وإنسانية: كم كانت درجة الحرارة في ووترفيل عندما كان يبني ممرّ الحديقة في كولبي كولدج؟ وتلك الوجبة المجّانية، هل كانت مُشبِعة على الأقل؟ وماذا لو ولَدته مِنتهى سعد في لبنان، كم سيدفع لكي يمثّل الناس؟