عبدالله بشارة 

نقدر نزاهة سمو رئيس الوزراء، ونحيي طموحه، ونود أن نرى الوزارة الجديدة عنواناً للتطلعات التي ينوي تحقيقها، نعرف تواضعه في السلوك وشغفه في الطموح، واصراره على تخطي المعوقات، لكن هذا الاصرار لن يأتي من تكرار النهج السابق في التسامح الواسع والترضيات الباردة، وهو ما دفع نواب الأجندات إلى توظيف الناشف من المفردات وحشد مشاعر التعبئة والصدامات، كما رأيناها في الجلسة الأخيرة، وسيتكرر الوضع إذا اتبعنا الأسلوب الماضي.


كانت جلسة الاستجوابات ماراثونية في طولها، شديدة في توترها، هزلية في العديد من اتهاماتها، تحول فيها نواب إلى هيئة عامة للاتهام في ملف ضم كل المحتويات التي أرادها النواب مهما كانت غرابتها، وكانت الشوشرة تأتي من مجموعة تهوش لارباك الوزير الذي كان مبالغاً في أدبه ومتجاوزاً المقبول في حنانه، ولم ينتبه الوزير لقسوة التصويب التي تستهدف استفزازه، وخصومه على علم بأنه ليس له القدرة على مجاراة الخصوم في توظيف كل ما يتوافر للاطاحة به.
تميزت حياة الكويت من يومها الأول بالاعتدال والعقلانية في اطار الدولة المدنية المستقبلة للجديد المفيد، والمتفاعلة مع الابتكار والتجديد، وكان مجتمع الكويت منفتحاً بشيء من المحافظة، ليس سلفياً مستهدياً بآراء الشيخ ابن تيمية، ولا متأثراً بشيء من مواعظ الشيخ حسن البنا.
لم تدخل حياة الكويت مناهج الاسلام السياسي وتوجهاته لتحويلها إلى دولة دينية في تشريعاتها، ولم يكن لقوى الاسلام السياسي وجود في المنظومة الاجتماعية الكويتية، ولم يكن للسلف أي تأثير رغم أن بعض شيوخ الدين فيها من النوع المحافظ السلفي البسيط، الذي لم تقتحم خطبه المجال السياسي.
كانت مناظرات الكويت السياسية تدفع نحو الاطلاع والتطوير والحكم الرشيد والعدالة، وتواصل هذا المسار حتى بعد اقرار الدستور فلم يكن بين الوزراء السابقين وزير من حدس أو الاسلام السياسي أو من جماعة السلف.
لكن تبدلت الأحوال، وفتحت الأبواب، لتواجد مكّن مدرسة حسن البنا من دخول البرلمان والوصول إلى تشكيلة مجلس الوزراء، وبالطبع لا يمكن لأجواء الهدوء أن تتواصل إذا جاء من يطرح مقترحات في السياسة والتشريع لا تستقيم مع الموروث والاعتدال الفكري الذي عاشته الكويت منذ نشأتها، وقد كشفت لنا أحداث الكويت أن توزير من ينتمي إلى فئة الاسلام السياسي أو من مدارس السلف لا يضيف شيئاً ايجابياً، وإنما يعطل مسار الاجماع الذي ارتكزت عليه الكويت وقامت على أساسه الدولة باعتدالها ومزاجها.
أطروحات الاسلام السياسي لا تنسجم مع المحتوى المتفق عليه منذ القدم، ومع فشل الاسلام السياسي في تبديل الثوابت انتقل إلى أسلوب المواجهة من أجل الحصول على مكتسبات وغنائم في الوظائف المهمة، لا سيما في معاهد التعليم ومؤسسات التدريب والميل نحو رعاية الشباب لتوطين رسالته في بيئة ناشئة قد تصل إلى مراكز القيادة.
كان سلوك نواب حدس في هذا الفصل يعطي مؤشرات تجاه النهج الذي تخطط له المجموعة، فإذا ما تعذر الحصول على منصب وزاري فإن البديل المستمر والأسهل هو الضغط لتأمين مقاعد مستقبلية تنطلق منها حملة حدس لمشروعها الكبير في الحصول على نفوذ سياسي قد يمكنها من التأثير في ما تريده، لا سيما في التضييق على منافذ الانفتاح الكويتي التاريخي في التسامح ورفض الانغلاق والغلاظة الاجتماعية.
كان التقارب بين جماعة حدس وجماعة السلف واضحاً في توجيه القذائف المتلاحقة نحو الوزير المستجوب وبأسلوب يوحي باستعجال التخلص من العناصر التي لا تتردد في الدفاع عن التسامحية الكويتية المشحونة بروحانية تندفع مع الأجيال وأمنت للكويت استيعاب المستجدات مع الحفاظ على الالتزام بمبادئ الاسلام وقيمه العالية، وهذا التآلف المرحب بالتجديد والملتزم بقيم الاسلام هو كنز الكويت الواقي من التطرف ومن غلو الاستبداد الفكري والعقائدي.
في هذا المناخ الذي تدور فيه الاتصالات عن تشكيل وزاري يرفع الهمة الكويتية، لا مفر من استيعاب كفاءات كويتية من حضن الموروث الكويتي المتوارث من دون تطرف ومن دون مس بالأسس التي أمنت للكويت استقرارها والاجماع المجتمعي الضروري لأمنها.
فوزراء الانتماء، كما كشفت تجارب الماضي، أسرى لمواقف لا تتفق مع الموضوعية التي هي جوهر الحكم الرشيد، وتتعارض مع دبلوماسية الكويت في التعامل الخارجي واستيعاب مستلزمات التطور الداخلي.
نحن نبحث عن وزير ينظر إلى الواقع من دون ألوان للانتماء، ومن دون أثقال التأثير الحزبي، ويحتكم إلى العقل وشروط القانون.
تجربة الكويت مع توزير الملتزم لم تقدم العائد المفيد مع ارتجال اتخاذ قرارات مصيرية أربكت كيان الكويت المنفتح.
ورفض ضغوطات النواب والمولعين بشن الغارات على مكاتب الموظفين، وهناك وزراء في الوزارات المستقيلة يشكلون حائطاً ضد اختراقات النواب، وهم من الذين يريد نواب الخدمات والبهرجات الاطاحة بهم، وشخصياً متأكد من نزاهة ما يطلق عليهم وزراء تأزيم، فهم في عرف النواب غير متعاونين لأنهم حراس القانون.
وهنا نشير إلى دور رئيس مجلس الأمة في الحفاظ على هيبة التمثيل النيابي، بعقد اجتماعات لمكتب المجلس تعالج انحسار التقدير المجتمعي لنواب يتجاوزون أصول العمل ويتسببون في احراجات مزعجة للوزير وللنائب.
يستطيع رئيس الوزراء أن يشهر شهادة النزاهة في مسلكه، ولا شك لدينا بذلك، لكن المطلوب أن يحافظ على وزراء مشهود لهم بالعفة والعطاء، ويأتي بآخرين من الحضن الكويتي الذي ظل نقيا وطنيا..