فضيلة الفاروق

تعتبر الحرب العالمية الثانية أكثر الحروب دموية في التاريخ، فقد التهمت أكثر من ثمانين مليون قتيل، وحوّلت العالم إلى مسرح للكوابيس والأشباح المرعبة، وحتى الجيوش المقاتلة في الصفوف المنتصرة كانت قد فقدت روح الحياة.

وإن كان هتلر قبل تجنيده لجيوشه وتحويلها إلى آلات للموت قد أقام محارق للكتب، مغلقاً بذلك منافذ الرؤية العاقلة عن الجميع، فقد وجد الناشرون خلال الحرب أن لا شيء بإمكانه دعم قوات التحالف ضد الجيش الألماني غير قراءة القصص الجيدة الملهمة. ولأن إيصال الكتب وتوزيعها لتلك الجيوش الموزعة في أطراف أوروبا ومشارف القارة الآسوية كان مهمة صعبة فقد صُغِّر حجم الكتاب لتتسع له جيوب البدلات العسكرية حتى يتمكن المحاربون من حملها، أرسلت الأناجيل على هذه الطريقة لتلك الجيوش المدمرة نفسياً، لكنها لم تتمم مهمتها على أكمل وجه، فقد كانت قراءة الإنجيل لمقاتل خلف متراس الموت لا تعني له أكثر من تلاوة صلاته الأخيرة قبل مفارقته الحياة، وقد فكر الناشرون في إختيار نوعية كتب مختلفة، إلى أن كتب أحد الجنود المصابين رسالة إلى زوجته يخبرها فيها عن رواية قرأها خلال فترة علاجه غيّرت تماماً طريقة تفكيره وجمعت أشلاء نفسه العليلة. كانت تلك الرواية لكاتبة أميركية من جذور ألمانية شاءت الظروف أن تشهد حياة بائسة وفقيرة في حي بروكلين الشهير بعد هجرة والديها إلى أميركا.

عنوان الرواية « شجرة تنمو في بروكلين» روت فيها الكاتبة «بيتي سميث» جزءاً من طفولتها في حي بروكلين، وقد أعيد طبع الرواية في ذلك الحجم المقترح، وأرسلت للجيوش المنهكة من الحرب.

كانت تلك أول رحلة لكتاب الجيب نحو الحرب، وقد كانت ثورة صغيرة في عالم الكتاب لكنها ذات تأثيرات عظيمة في عالم القراءة، فقد فرضت الظرف أن تستعمل نوعية ورق رخيصة لكتاب الجيب، مع أغلف مرنة غير الأغلفة الأنيقة المدبجة والقاسية، غير مكلفة، والتي عادة ما ترفع من ثمن الكتاب، لكن مع اختيار دقيق للموضوع ومحتوى الكتاب.

كتاب «بيتي سميث» بيع منه ملايين النسخ، ما أثبت نجاح المغامرة الجديدة لتسويق الكتاب خارج الطبقات الأرسطوقراطية ذات التعليم الجيد والإمكانات المادية العالية. ارتفعت المبيعات بشكل لم يخطر على بال، ما جعل الناشر الأميركي يتفوق في إيجاد الحل لتسويق الكتاب ليس فقط بين الطبقات الفقيرة، بل وضع الكتاب في يد المقاتل الحامل للسلاح.

اقتحمت الكتب عوالم جديدة إذن، وخاضت حرباً مغايرة، بأدواتها السلمية العجيبة، إذ دخلت أكثر الأماكن قتامة في العالم، حيث الدمار لم يترك أثراً للحياة حتّى في الناجين منها، وأحدثت المعجزة التي لم يتوقعها أحد، في إعادة إعمار الذات الإنسانية التي شوهتها الحرب.