فهم مسببات نشأة العمارة والعمران في منطقة نجد لا يستطيع أن يتجاوز "الجغرافيا" كأحد المحددات التي تفرض نفسها بقوة على طبيعة المستوطنات البشرية في هذه المنطقة من الجزيرة العربية التي تمتد جذورها بعيداً في التاريخ لتصل إلى بداية الاستيطان البشري. يتميز العمران النجدي بتوارث الخصائص الجغرافية التي تمثلت في حدود الكفاية التي تفرضها الصحراء ووعورة تشكيلات جبل طويق وهبة الحياة التي تمثلها الأودية التي كانت تشكل أوردة تجلب معها الحياة وتشق طبقات الصخور الطينية لجبال طويق وتصنع على أطرافها واحات كانت عبر التاريخ ملتقىً للاستيطان البشري حيث تتمدد هذه التجمعات وتتوالد عبر آلية اجتماعية اقتصادية تسمى "الخبوب"، كما هو معروف في القصيم، وهذه آلية لتوليد المستوطنات البشرية مرتبطة بوصول البلدة القائمة إلى حدها الأقصى من عدد السكان فيصبح من اللازم أن ينتقل بعض السكان لينشؤوا بلدة جديدة. وهي آلية اقتصادية/عمرانية مجربة عبر التاريخ ولا تقتصر على منطقة نجد فقط بل مثلت ظاهرة كونية حيث ارتبطت طاقة المدينة بسلة الغذاء التي تمدها بالحياة ولا يسمح بأن تتجاوز هذه الطاقة الموارد الغذائية المتاحة. ربما هذا يفسر كثرة البلدات وتقاربها على جوانب الأودية التي تحيط بجبل طويق وتقارب سكانها في الجذور والمنشأ والعادات الاجتماعية.

الشكل العمراني الصحراوي بشكل عام شديد الارتباط بالمكان الذي يولد فيه، فلا يوجد مكون عمراني ينشأ في الصحراء دون الاقتراب من مصادر الحياة التي تضمن له البقاء والاستمرار. إذاً عندما نتحدث عن أسباب نشأة العمارة والعمران في الرياض القديمة فنحن نتحدث عن المكان بخصائصه الجغرافية الطبيعية وبثقافة سكّانه الذين توارثوا أنماط الحياة الصعبة وحافظوا على تقاليدهم العريقة آلاف السنين ومكوناته الاقتصادية التي اعتمدت بشكل أساسي على مبادئ "حد الكفاية" أو "الأقل هو الأكثر"، وهذا المفهوم ليس مرتبطاً بشكل مباشر بمبدأ المعماري الألماني الأمريكي "ميس فان دوره"، لأنه يعبر عن تطور مبادئ عمرانية اعتمدت على ما يمكن أن نسميه "الاستدامة العفوية" التي تفرضها ظروف الحياة الصعبة والتي استطاعت أن تستثمر الموارد الشحيحة التي تنعم بها الصحراء على ساكنيها، وتحولها إلى عمران مستدام متماسك ومتفاعل مع خصائص المكان. يمكن أن نربط هذه الخصائص بما وصفه الجغرافي المصري جمال حمدان بـ"عبقرية المكان". فنحن أمام مكان يحمل خصائص عبقرية على مستوى التكوين الطبيعي وعلى مستوى الموارد التي طوعت ساكنيه كي يطوروا أنماطاً عمرانية قابلة للحياة ومولدة لجماليات من نوع خاص يتعامل مع مبدأ "الأقل هو الأكثر".

في كتابة "عمارة بلا معماريين" الذي نشر عام 1964م، يتحدث الناقد "برنارد ريدوفسكي" عن الوظيفية والجمالية الفائقة للعمارة التقليدية بشكل عام، على أن هذه العمارة، التي توصف بأنها عفوية أو نشأت دون تخطيط أو تفكير مسبق ولم يوجهها معماريون أو مخططون، هي في جوهرها مكون ثقافي ومادي متماسك ولد من قلب التجارب ونشأ بشكل فائق الدقة الوظيفية ومرتبط بعوامل الطبيعة المناخية والتقنية، فهل يمكن أن نقول عن هذه العمارة إنها تخلو من التفكير المسبق أو ما يسمى بالتخطيط العمراني في وقتنا الحاضر؟ الفرضية التي يقدمها هذا المقال هي أن الشكل العمراني للبلدات القديمة، رغم عفويته وبساطته، إلا أنه يعكس انسجاماً عميقاً مع المكان وخصائصه الطبيعية والإنسانية، وهذا يعزز فرضية وجود نظام عمراني ومعماري متكامل يوجه المنتج العمراني بشكل مستتر أو كامن لكنه جزء من البنية الثقافية لساكن المدينة يتم توارثه وتطويره وتحسينه مع تغير التجارب عبر الوقت. إنه نظام متوارث قائم على وجود مجموعة من الأنوية الجوهرية Core forms and values تشمل الثلاث عوامل التي تصنع العمارة وهي عامل الثقافة والدين والتقاليد الاجتماعية وعامل الطبيعة أو الجغرافيا (التضاريس والمناخ) وعامل التقنية بما في ذلك المعرفة الحرفية المحلية. وكل عامل من هذه العوامل يحتوي على مجموعة من الأنوية الجوهرية تشكّل القيم الراسخة والمتوارثة. على أن هذه الأنوية غير ظاهرة ولا منطوقة أو مكتوبة بل هي كامنة ومستترة داخل عقول الناس ويتم توارثها من خلال التجربة الميدانية اليومية التي تحدد ماهية القرارات التي يجب أن تتخذ عند البناء.

هذا الفرضية تفترض وجود "تخطيط كامن" في عقول الناس متوارث يتم استحضاره والتعديل عليه ميدانياً بشكل مباشر وهو المسؤول عن إنتاج البيئة العمرانية والمحافظة على توازناتها التشكيلية والاجتماعية والمناخية والتقنية. المحاولة المنهجية للكشف عن هذا النظام وفهمه كإحدى التجارب العمرانية الإنسانية المتفردة يستوجب تفكيك المدينة القديمة والعودة إلى مكوناتها الأولية التي عادة ما تولّد البلدات النجدية وتستعيد بنيتها كل مرة تنشأ فيها بلدة جديدة. القدرة الفائقة على استعادة المنظومة العمرانية مرتبطة في الأساس بمنظومة تقاليد كانت تتطور ببطء وكانت تعمل على استعادة النظم الحاكمة للبيئة العمرانية وتوجه قرارات الناس بشكل عفوي دون الحاجة إلى تدوين هذه النظم (التقاليد).

لعلّي أشير هنا إلى الدراسة التي قام بها الدكتور محمد النعيم في بحثه للدكتوراه، فقد حدد 40 نواة جوهرية تحدد منظومة التقاليد التي تتحكم في صناعة العمارة النجدية وصنفها إلى أربع مستويات تبدأ من الأنوية الثابتة المولّدة للهوية الأساسية ثم الأنوية الأقل ثباتاً التي تتحكم في توليد الأشكال وتتحدد خصائصها ثم الأنوية شبه المرنة التي تحدد ملامح الأشكال ومواقعها في البيئة العمرانية، وأخيراً الأنوية المرنة المرتبطة بالتفضيلات الفردية وهي التي تصنع الفروقات الخاصة بين المباني. في اعتقادي أن دراسة العمارة التاريخية في المملكة وفق هذه الفرضية قد يقودنا إلى تطوير معجم أثنوغرافي متكامل لمنظومة التقاليد التي أوجدت عمارتنا بشكل عام.