في سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كانت ليبيا قبلة المعارضين والغاضبين. طيف من التائهين العرب الذين يحملون في صدورهم أكثر من غصة حارقة. نارها آهات فلسطين وحلمها الوحدة العربية. غرب زمن الأحلام، وقبل القوميون بتأجيل الأمل إلى زمن ستدفعه أمواج المحيط، ودفقات الخليج. «كامب ديفيد» كلمتا الصاعق الذي أبدع لغة سياسة المعارضة الثورية القومية. اختلطت كيمياء الرغبة الحلم، بالواقع السياسي الثقيل.

العشرات من العرب، منهم السياسيون والشعراء وعسكريون متقاعدون، يلتقون كل صباح في بهو الفندق الكبير بطرابلس الغرب. الفندق الذي بناه الإيطاليون في سنوات الاستعمار، وأعطوه اسم «القراند هوتيل». الشاعر العراقي الكبير محمد المهدي الجواهري، يجلس في الزاوية اليمنى، ويجد في انتظاره الأديب والمثقف والسياسي، الأستاذ علي مصطفى المصراتي. المصراتي الظاهرة السياسية والأدبية الليبية، رجل يذخر الكلام، له آلاف التسجيلات مع الكبار العرب، من سياسيين وشعراء ومطربين. يمتلك مكتبة نادرة، بها من الكتب ما لم يمتلكها غيره. تسجيلات طويلة مع عباس محمود العقاد وطه حسين وأم كلثوم، وعبد الرحمن بدوي. والساسة العرب بلا حصر من المحيط إلى الخليج.

الشيخ علي مصطفى المصراتي، الذي درس بدار العلوم بالقاهرة، يحمل في روحه وعقله، قواعد الزوايا التعليمية، أو لنقل الخلوات الثقافية. وجد في الشاعر العراقي الجواهري، الجوهرة التي وهبتها له الأقدار. والشاعر العراقي الكبير الهارب من بلاده ومن الزمن الثقيل، وجد في الموسوعة علي مصطفى المصراتي، نفحات حية من نسيم الوجد والوجود الذي طوته رياح الزمن العراقي والعربي الثقيل. الفنان الليبي الكبير الأستاذ كاظم نديم، أحد آباء الموسيقى الليبية، والعالم بالمقامات الموسيقية، كان الثالث الذي لا يغيب عن جلسة الجواهري والمصراتي. الشباب الليبيون الذين تجذبهم الأسماء الكبيرة التي تجلس حول الطاولة اليمينية، يصنعون بسرعة حلقة واسعة ترتفع فيها الأصوات التي تسأل أو تقول.

في الشعر والسياسة والأدب والتاريخ والفن. الشاعر العراقي الكبير، لا يتردد أن يقول إن أذنيه غلبتهما الأيام، والحافظة أضناها ازدحام وأثقال ما حملت، والشيخ علي مصطفى المصراتي له قدرات أسطورية في نحت القفشات الحاضرة. جاءه شاب حاملاً في يده ورقة قال إنه كتب فيها شعراً حديثاً، وأراد أن يقرأ شعره على الشيخ المصراتي. استقبله الشيخ ببسمة مرحبة. بعد أن فرغ الشاب من قراءة شعره، قال له المصراتي: «مبروك يا بني». فرح الشاب وسأل: «هل أعجبك شعري يا شيخنا»؟. أجابه المصراتي: «أبارك لك تخلصك ممّا كنت تحمله في بطنك، لو بقي فيه لسبّب لك مشاكل لا يعلمها إلا الله». في الفندق الكبير بطرابلس تجمّع سياسيون وأدباء وفنانون عرب، أغلبهم حملوا صفة المعارضة لأنظمتهم السياسية. وهناك زوار يأتون ويرحلون. والمقهى الفسيح في الفندق الكبير هو المنتدى الذي يجمع أهل المشرق بأهل المغرب. أسماء سياسية من الوزن الثقيل مثل خالد محيي الدين، عضو مجلس قيادة الثورة المصرية، وأمين حزب «التجمع»، كان من الشخصيات التي أقامت في الفندق الكبير. كان يفضّل تناول الفطور في المطعم بالدور الثاني، وكانت جلسته سياسية خالصة. يشاركه إفطاره أحياناً بابكر كرار السياسي السوداني وشخصيات عراقية وفلسطينية. الدكتور محمد أحمد فتح الله، لا يرتاد الفندق الكبير ويفضّل الانعزال في مقر إقامته. الأديب والفنان المصري عبد الرحمن الخميسي، كان من سكان «فندق الشاطئ»، له حضور من حين لآخر بالفندق الكبير، وكذلك الصحافي المصري الساخر محمود السعدني. إليهما يأتي الشباب الليبيين والعرب الذين يعملون في ليبيا، ليستمعوا إلى نوادرهما وذكرياتهما في الفن والأدب والسياسة. في هذا الفندق تحرك التاريخ أياماً وتحدث وقال وسمع. زاره ساسة وفنانون عرب كبار. بعضهم أقام فيه، وآخرون ساهموا في حلقات نقاش عامة أو خاصة. أسماء بعضها رحل عن هذه الدنيا، وكانت حاضرة سياسةً، وإبداعاً أدبياً وشعرياً في الفندقين؛ «الشاطئ» و«الكبير».

وديع الصافي وصباح فخري ولطفي بوشناق وغيرهم، كانوا لا يغيبون عن المناسبات الوطنية الليبية، أو حتى في زيارات خاصة، فقد ارتبط كثير منهم بصداقات شخصية مع بعض الليبيين. الشاعر العراقي مظفر النواب عاش في ليبيا سنوات طويلة، وأحب كل شيء فيها، وكانت له شعبية واسعة بين النخبة المثقفة والعامة. قال فيها قصائد سياسية ونضالية وثورية قومية، امتزج فيها الغضب بالأمل والحنين والتمرد على الواقع العربي. لا أعلم إن هو التقى الشاعر العراقي الكبير محمد المهدي الجواهري في طرابلس أم لا. مظفر النواب كانت له علاقات واسعة مع السياسيين، في حين كانت حلقات الجواهري من المثقفين والفنانين الليبيين القدامى. أيام الإعداد لفيلمَي «الرسالة» و«عمر المختار»، كان الفندق الكبير بطرابلس وفندق الشاطئ، بمثابة المنتدى الذي يعج بكبار النجوم العالميين. الصحافيون الليبيون والعرب والأجانب، يتزاحمون في الفنادق الليبية التي يقيم بها النجوم المشاركون في شريطي «الرسالة» و«عمر المختار». هناك كثير من الساسة والأدباء العرب ممن التقوا الممثلين المشاركين في فيلمي «الرسالة» و«عمر المختار».

المطربون والمطربات من مغرب العالم العربي ومشرقه، استضافتهم الفنادق الليبية الكبيرة، ولم يغب الصحافيون العرب، خصوصاً من اللبنانيين والمصريين، الذين يتدافعون في كل الأوقات حول نجوم السينما والسياسة والأدب. الفندق الكبير في طرابلس في سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كان حلبة عربية وعالمية، جمعت بين السياسة والفن والأدب والسينما، وكان قبلة لجيل جديد من الليبيين، الذين اندفعوا إلى دنيا الأدب والفن، وتحلقوا حول نخبة من السابقين في مجالَي الأدب والفن. الكاتب الليبي الكبير الصادق النيهوم، كان من زبائن الفندق الكبير بطرابلس. هناك ينتظره الأصدقاء والجيل الجديد من الكتاب والأدباء. الفندق الكبير بطرابلس كان له عبق وأفق شامل. المكان المنتدى الذي يلتقى به السياسيون والعسكريون والأدباء والفنانون من أعمار متفاوتة. هناك تزول المسافات والرتب والانتماءات. بعض الأجانب يستغربون ذلك الاندماج العفوي بين كل الشرائح الليبية، وانفتاحها على القادمين. المطرب الليبي محمد حسن أو عادل عبد المجيد أو عبد المجيد حقيق، وغيرهم عندما يدخل أحدهم الفندق، يلتف حوله الكبار والصغار، ويتحدث معهم ويلاطفهم. الفندق الكبير في طرابلس كان زمناً ولوحة حياة، شارك في رسمها شخوص رحل أغلبهم عن هذه الدنيا، لكن الألوان الحية ستبقى زاهية في ذاكرة ليبيا، وكل الذين عاصروا ألوانها في الفندق الطرابلسي الكبير. واحة الألوان التي سكنها زمن.