يضع نقطة في حسابة على «كس» فيرد عليه مئات الأشخاص. بعضهم يسأل عن سبب وضع النقطة، وبعضهم يفسر سبب كتابة النقطة، وبعضهم يذهب بعيداً، فيؤلف الحكايات حول هذه النقطة. كل ما فعله هذا المشهور الذي يتابعه مئات الآلاف أو الملايين على وسائل التواصل الاجتماعي أنه كتب نقطة بضغطة زر واحدة على كيبورد هاتفه النقال أو كمبيوتره! نقطة واحدة فقط، استجلبت آلاف التفاعلات والحكايات المكتوبة وغير المكتوبة.

تضع مشهورة «السناب شات» صورة لسحابة أو لقمر، أو حتى لطرف فستانها، فتنهال عليها آلاف التعليقات التي تسأل وتتساءل وتعلق وتُثني وتحتج وتُناشد وتطلب وتفرح وتحزن. صورة واحدة من مرسل واحد في ظرف عادي جداً يُقابل بتفاعل واسع يمتد لساعات، وربما لأيام.

يعيش مشهور ومشهورة وسائل التواصل الاجتماعي على ضجيج مئات الآلاف من التفاعلات اليومية مع جماهيره، فكيف تُريده أن يكون شخصاً عادياً عندما يلتقيك في مكتبك أو بيتك أو استراحتك، أو حتى على الرصيف؟! كيف تُريده أن يتعامل معك نداً لند، أو أن يتكلم معك كصديق أو كقريب في العالم الحقيقي؟ كيف تريده أن يتنازل عن كونه بطلاً فرداً واحداً أمام مئات الآلاف من المعجبين والمتابعين ليستخدم معك لغة الحوار الثنائي المتساوي الأطراف؟ هذا بالنسبة له نوع من الجنون الذي لا يمكن أن يتورط فيه! يحكي لي صديق أن أحد معارفه يحظى بمتابعة واسعة على منصة إكس (تويتر سابقاً) تفوق الثلاثة ملايين متابع.

يقول صديقي، إن هذا الرجل لا يُريد أن يتحدث أحد في المجلس غيره، وعندما يقاطعه أحد الأشخاص أو الموجودين، أو يدلي أحدهم برأيٍ يخالف رأيه، يثور ويغضب ويخرج من المكان ولسان حاله يقول: مئات الآلاف ينتظرون مني إشارة على «إكس»، وخمسة أو ستة رجال في مكان مغلق (ربما لا يُتابعهم على إكس سوى العشرات) يحاججونني ويناقشونني ويختلفون معي! هزلت! يُضيف صديقي أن هذا الرجل عندما يُجبر على احترام «العلاقة الاجتماعية المتوازنة» يخرج سريعاً من الواقع، ويدخل من جديد في عالمه الافتراضي الوهمي الذي يجد فيه التقدير والتبجيل والاحترام المبالغ فيه.

مشاهير منصات التواصل الاجتماعي تعرضوا، خلال السنوات القليلة الماضية لنوع من «العطب العقلي» الذي جعلهم يعتقدون أن ما يمكنهم فعله في فضاءات التواصل الاجتماعي، قابل للتطبيق على أرض الواقع.

آمنوا جميعاً (إلا من رحم ربي وعرف قدره ومكانه ومكانته) بأن تأثيرهم الضخم في وسائل التواصل الاجتماعي ممتدٌ إلى خارجها، وأن على الملايين خارج منظومة «البايناري» أن يتحولوا إلى رموز بايناريه تصفق لهم وتنحني لهم بمناسبة، ومن دونها.

بعض المشاهير الحقيقيين (الرياضيون، الفنانون، الأدباء..الخ) مصابون بنوع معين العطب العقلي الذي يفرض عليهم أن يظهروا دائماً بصورة غير صورتهم الحقيقية في المحافل والتجمعات الجماهيرية. صورة جامدة وبائسة في أغلب الأحوال، لكن هؤلاء معذورون نسبياً، إذ إن شهرتهم من الواقع وإليه. المشكلة تكمن في أولئك الذين اشتهروا في العوالم الافتراضية، فصاروا يصدرون ضوضاءهم الإلكترونية إلى الحياة الطبيعية!