هل حدث لكم أن عدتم إلى كتابٍ قرأتموه في مرحلة عمرية سابقة من حياتكم، وأثار، يومها، إعجابكم، ومحمولين بهذا الإعجاب تدفعكم الرغبة لإعادة قراءته، فتُفاجؤون بأن المطالعة الثانية للكتاب تبدد الانطباع الإيجابي الذي تكوّن لديكم حين قرأتموه وأنتم في عمر أصغر؟

يحدث هذا للكثيرين منا، وقد لا يكمن السبب في أن الكتاب الذي أعجبنا ذات يوم غير مهم، فلعله، من وجهة نظر معرفية مجردة، يظل محتفظاً بأهميته، التي لا تتبدد فقط لأننا لم نعد نراه ممتعاً كما رأيناه. قد يكون السبب هو أن طبيعة اهتماماتنا الثقافية وذائقتنا في القراءة تغيّرت، وبالتالي فإن ما كنا نعدّه كتاباً جاذباً لم يعد كذلك، لأن اهتماماتنا في المعرفة تحوّلت إلى مناطق أخرى لم تكن تستهوينا، ولأن المعارف نفسها تطورت، وتجاوزت محتوى الكتاب الذي أعجبنا قبل سنوات، دون أن يقلل ذلك من أهميته في مسار تطوّر هذه المعرفة.

يحدث العكس أحياناً. قد نكون قد طالعنا في مطالع الشباب كتاباً استعصى علينا فهم مضمونه، ربما لطبيعة ما يعالجه من قضايا، أو لأن لغته غير سلسة، خاصة في حال كونه مترجماً من لغة أجنبية، لم يوفق المترجم إلى لغتنا في إيصال المحتوى بالسلاسة التي هو عليها في اللغة الأصل التي كتب بها، فما أكثر الترجمات التي تُنفرنا من كتب مهمة، لم يحسن مترجموها في تقريب محتواها إلينا وشدّنا إليه.

شيء قريب من هذا يحكيه الناقد العراقي الدكتور عبدالله إبراهيم عن علاقته بأدب غابرييل ماركيز، متوقفاً أمام سيرته الذاتية، فحين اطلع على ترجمتها العربية التي وضعها طلعت شاهين قرأها بتمامها، لكنها كانت «قراءة مُعرض لا قراءة مُقبلٍ»، كما يقول، لما وجد فيها «من تكرار، وتكلّف، وضعف ترجمة»، ما جعله يعرض عن قراءة ترجمتين أخريين لها إحداهما بعنوان «عشت لأروي» لصالح علماني، والأخرى بعنوان «نعيشها لنرويها» لرفعت عطفة.

متأخراً عاد إبراهيم إلى ترجمة صالح علماني، على سبيل المصادفة وحدها، حين اعترضته نسختها في مكتبته المنزلية، رغم أنه لم يكن في وارد قراءتها، لكن الفضول دفعه إلى «تناول الكتاب من أحد الرفوف، وتصفحه واقفاً»، ومنذ السطر الأول حتى الأخير، لم ينفكّ عنه، ليقول في منشور له بعنوان: «ماركيز: تعديل حكم نقدي» إنه آن أوان تعديل حكمه السابق على الكتاب، فعلى خلاف ما سبق أن قطع به من ضعف الكتاب، وجده، هذه المرة، «سيرة ذاتية مميزة كشفت عن العقدين الأولين من حياة ماركيز، وفيها تجلّى ثراء حياته، وجسارته في خوض تجارب مذهلة، وقد جعل كثيراً من ذلك وقائع سردية في رواياته».