كان اسمها زارا، ولكن والدها عمر بيگ كان عندما يناديها، يقول لها يا بنت. ورويداً نسي أفراء العائلة زارا، ونادوها فقط بالبنت (كچ)، إلا أنهم وللتدليل مرة، والموسيقى اللفظية مرة أخرى، والانبهار بجمالها الفاتن نادوها بكچان، أي بنات!

كان والدها عمر بيگ رجلا شديد الوسامة، يتمتع بخفة الظل ورجاحة العقل، فأخذت منه كچان كل هذه الصفات الجميلة، ونشأت صبية بعقلية جامحة. جُمعت فيها كل الصفات الراقية لبنات قرى الوادي، وربما السليمانية وكُردستان، ووهبت لكچان. عينان لازورديتان بوسع السماء، أنف ملئ بكبرياء الجبال، ووجه طفولي وبرئ مبارك يحاكي ملائكة الرحمن. عندما كنا نراها (نحن البيشمركه) قادمة من الحقل، أو النبعة، كنا ننكس أفواه بنادقنا، نحني رؤوسنا وأعيننا اكراماً لله. بعضنا، وان لم نكن مؤمنين، كنا نردد البسملة عندما نلتقي بها، نرفع أيدينا للسلام ونمضي مسرعين. وكنا كمقاتلين نشعر بالفخر لأننا كنا ندافع عن حرية وسلامة وغد أبناء وبنات هذا الشعب الجميل. بعض المغنين الشعبيين أشاروا إلى البنت الهلدنية (نسبة إلى قريتها) في أغانيهم، ولكنهم لم يجرؤوا أن يذكروا اسمها!

كچان، كانت جبلية وحسب. تعيش في عالم صغير وحالم. تراها تداعب حملاً صغيراً، أو تسير بين النياسم الجبلية ومزارع الكروم، تجمع مع صويحباتها باقات النرجس من الوديان القريبة، وسيقان الريواس الطرية من قمم الجبال. كانت تعيش في عالم صغير وحالم. لا تعقيد، ولا تفكير عميق، ولا مساحيق تجميل. تختلط فتنتها بالجمال الصارخ لقريتها الوادعة. لا شئ كان يضيرها لأنها لم ترَ في حياتها غير هذه النبعة والجبال المحيطة بها، وأشجار السرو والجوز، والمداخن التي تطقطق فيها سيقان البلوط الرطبة. كل شئ كان جميلاً وساحراً في عالمها البسيط الوادع. القرية كانت غارقة بين سلسلة من الجبال المنيعة، وأنباء العمليات الحربية بين رجال المقاومة والجيش الحكومي بعيدة. ولكن رويداً كانت تقترب وتقترب. حتى باتت قذائف المدفعية تسقط في أطراف القرية، والطائرات الحربية لا تغيب عن سمائها. وكانت كچان تجفل لهديرها ودويها المرعب. إلتجأت عائلتها إلى كهوف ومغاور جبل ژيلوان. ومع انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، بدأت القوات العراقية بعمليات الأنفال. وفي مثل هذه الأيام من عام 1988، وخلال عمليات الأنفال الثانية، وصلت القوات العراقية إلى منطقة شارباژير، ووادي مادينة، وجبل ژيلوان، حيث كانت كچان وعائلتها... وأخذوا كچان... سبوها... أصبحت جارية لدى أمير المؤمنين. ويا إلهي، كيف لم يركعوا في حضرة هذه الملاك، أمام براءتها وطهارتها. كيف جروها من يدها، أي وحش خدشها، أسمعها كلمات بالرغم من أنها لم تكن تفهم لغتهم. هل قتلوها، أم باعوها، أم انتحرت لتتخلص من دناءتهم وحقارتهم.

كچان... ضحية من 180 ألف ضحية قضوا في عمليات الأنفال التي جرت بقيادة علي كيمياوي، وفيها دمر الريف الكُردستاني بالكامل... واستعملت الأسلحة الكيمياوية لإبادة البشر والحجر... وحتى اليوم، وأينما يحرث فلاح أرضه في أرجاء العراق، تخرج جمجمة طفل كُردي، ونكتشف قبراً جماعياً آخر!