مع صباحها الباكر، ودّعتنا بإشارتها الماسية المعروفة، وكانت تشير على أنها في طريق العودة إلى حضن بلدها، وستكون هناك مع نهاية الحب الذي أينع واخضرَّ، وها هو اليوم أصبح يابساً متعفّناً!

ودعتنا إلى حيث مدينة الرّقة، تاركةً خلفها أحلامها وصورها الجميلة، وتحوّلت تلك الصور إلى مجرد لقطة حوارية لم تكتمل!

حوارية، سقطت من تاريخ الزمن الذي يسبق الجياد الأصيل، بل تعداه، وها هو يرحل مودّعاً، تاركاً عناوين كثيرة طغت بمحتواها على علاقة استمرّت، وإن كانت قصيرة، إلّا أنّها أينعت ثماراً ناضجة.

علاقة فيها الكثير من العفوية، وشابها عناوين مبهرة لم تكن تعرف في يومٍ ما سوى الصدق طريقاً، ومشروعاً يؤدي إلى نهاية مفرحة، ولكنه ظلّ مشروطاً.

تلك العناوين، كانت هي آخر ما تلمّسه منها بأناقتها، وإحساسها الندي الذي ترك معه آهات ونماذج أخرى لأمثال هذه العاشقة التي ودّعتنا أخيراً، وبدون استئذان، بعد أن ملأت علينا دنيانا بأدبها وتواضعها الجمّ.

كان سفرها المفاجئ، إلى حيث مدينتها وأحلامها، فيه الكثير من الشوق والحنين، وإن كان يعلم في سريرة ذاته، أنَّ قلبها، وبدقاته المتسارعة، وكلماتها الموحية إلى نداءات سماوية، على أنها لازمته لفترة، كان هو من تبحث عنه، بين الركام والدمار والخراب الذي نال قسطاً كبيراً من مدينتها الفراتية! وبعد أن التقت حبيبها، تساءلت كثيراً عن ماهيته، وفاجأتها الصدمة، بأنه مرتبط بزوجة، وإن اختارها في يوم كان الاختيار فيه يختلف في أسلوبه، وفي طريقته عمّا هو عليه في الوقت الحالي، الذي نعيش، وتحولت العلاقة إلى مجرد علاقة عاطفية باهتة، ونادراً ما كانت أمثال هذه العلاقات وجدانية وصادقة، وفيها نبرات حبّ ترجم إلى واقع، وتتويجها سيكون، محكوماً بالزواج.

وفي أحد المساء، وقبل أن تغادر برجها العاجي، تناهت إلى أسماعه أخبارها، وها هو اليوم أكثر ما يشجّع على هذا الخيار.

خيار فيه انفتاح وتفاهم وانضباط، وتجاوز للماضي المؤسي بكل صوره المحزنة. وغيابها عنه، بعد أن سجّل اعترافاته بأناقتها وذوقها، ومدى جاذبيتها، وأنوثتها الطاغية التي هيمنت على كيانه، وعكست مجمل الأمور التي كانت تشغل ذهنه، وتؤلّب المواجع في قلبه، وتفتحت المسامات معلنة، وبتحدٍ قاسٍ، قناعته بها، والزواج هو الحل الأسلم لحسم هذه العلاقة الوجدانية النظيفة، التي يجدُ فيها الاعتراف على أنها صوت من لا صوت يعلوه، ورؤيته لهذه الإنسانة الهادئة بطبعها، الرقيقة في ألفاظها، والتي ما تزال تنهل من ماء الفرات النمير، وتغتسلُ منه، في صيف مدينة جادت بالعطاء، ولتغترف من الماء بكلتا يديها لتقدمه إلى حبيبها في يوم تعارفهم، في يوم اللقاء هناك..

لم تكن في موقف تحسد عليه، أبداً، فقد تخلّت عن كل احتمالاتها، وودعت المدينة الغريبة التي عاشت فيها سنوات غربتها، بالرغم من جمالها وألوان معالمها، فضلاً عن استقبالها للزوار، ومن أنحاء العالم، والتمتّع بها، والتحرّك في زواياها، وفي أسواقها، وشوارعها، ومقاهيها، ومطاعمها، وأبنيتها الشاهقة، وأبراجها العالية الضخمة، وفنادقها الفارهة.

في هذا المكان، قضت أيامها الطويلة، إلا أنَّ عشق "الرّقة" المدينة التي احتضنتها يوماً، وعاشت فيها أيام الطفولة والصبا، ظلّ محفوراً في قلبها الجريح. في وجدانها، وهي التي درست في معاهدها، وجامعاتها، وحصلت على أعلى الدرجات العلمية وتفوقت، ولكنها، في "رقّتها" الحبيبة، وبرغم المأساة التي عانتها، والتحوّل الكبير الذي شهدته، في أيامها الأخيرة، تركت بهاء المدينة الكبيرة، وقرّرت الرحيل إلى حيث مسقط رأسها.

ظلّ حنينها إلى الرّقة يُدغدغ مشاعرها في منامها، في صحوتها، في جلساتها، وفي إطلالتها، من أبراج المدينة التي حطّت رحالها بها، وشوقها إلى الأماكن التي كانت تسجل فيها ذكريات الطفولة وأيام الصبا، وها هي تثير في قلبي مواجع الغربة التي نعاني، لا سيما وإني عايشتها، وأخيراً همّت بالرحيل، والشوق يطاردها. يذّكرها بأسواق مدينتها، ولياليها المُقمرة، وشوارعها الموحلة، وجسرها العتيق، وشعبها الطيّب البسيط. والشوق إلى صديقاتها ومدرستها، وتراب مدينتها الذي يظفّر وجنتيها، ويَخدشهما.

وفي رحيلها، بعد انقضاء أشهر على فترة الإقامة، وانقطاع الشوق، والانبهار الذي شهدته خلال زيارتها، تقول، وبكل عفوية: إنّ مدينة الرّقة، فيها ترعرعت، وبها سأقضي بقية عمري، ولا يمكن أن أتخلى عنها، أو أبيعها بكنوز الدنيا كلّها، فأنا سعيدة بها، وأعشق كل ما فيها، كعشقي لمحبوبي، وإن تركته هو الآخر يُعاني مرارة الحرمان والشوق والغربة، حيث يقيم في بلد آخر يقع خلف البحار، إلا أنّه وعدني أنَّه سيعيش في مدينتي المحبوبة التي تترع رقّةً وعذوبةً. يكفي أننا نُحبّها وتُحبّنا، ونعشق كل ما فيها، من كرم ضيافة أهلها وأصالتهم.. وطيبتهم.