الرباط: قال محمد بن عيسى، وزير الخارجية والتعاون المغربي سابقا ، وأمين عام مؤسسة منتدى أصيلة ورئيس بلدية أصيلة، السبت، بالقاهرة، في جلسة افتتاح مؤتمر "التعليم في الوطن العربي في الألفية الثالثة"، المنظم، على مدى يومين، بشراكة بين المعهد العربي للتخطيط ومعهد التخطيط القومي والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألسكو) وجامعة الدول العربية _ مركز تونس، إن إصلاح المجتمعات يتطلب "شجاعة وإرادة وإقداماً وأيضا نزاهة فكرية وأخلاقية، على غرار دول من الشرق والغرب اتبعت نفس النهج واعتمدت ذات المرجعيات".

وزاد بن عيسى موضحا، في معرض مداخلته حول "التعليم العربي في ظل مقتضيات الحداثة والعولمة"، خلال هذا المؤتمر الإقليمي الفكري، الذي يهدف، حسب منظميه، إلى "استخلاص رؤية لإصلاح التعليم في الدول العربية بخصوص دور التعليم في الألفية الثالثة"، والذي يتميز بمشاركة نخبة الباحثين والدارسين المهتمين بقضايا التربية والتعليم، تنظيرا وممارسة وتجديدا، في الوطن العربي، أنه "يستحيل التحديث في ظل الاستبداد بكل أنواعه، استبداد الفكر والتاريخ والماضي، علماً أنَّ قرار إصلاح التعليم يخضع أولاً وأخيراً للإرادة السياسيَّة لكل دولةٍ عربيَّةٍ والالتزام الجدِّي بمنهجية الإصلاح بكل مستجداتها وتحدِّياتها".

الوعي والهوية والقيم

بعد أن قال إن التعليم، كما هو متعارف عليه، هو "المرآة الكبرى التي تعكس الشخصية الحضارية لأمة من الأمم بمكوناتها الثلاث: الوعي بالخصوصية والهوية، والقيم الجماعية المشتركة والمشروع المجتمعي المستقبل"، رأى بن عيسى، &أنه لابد من الاعتراف بأن "واقع التعليم العربي يعكس حاليا حالة المجتمع العربي"، التي من أبرز سماتها "اختلال خطير ومتفاقم في الوعي وضياع متـزايد في موجهات العملية التربوية الملتبسة"،و"انحسار منظومة القيم الاجتماعية وانفصامها إلى حدٍّ كبير عن النظام التربوي"، و"غياب مشروع مستقبلي حقيقي يُؤطر العملية التربوية ويوجهها".&

إخفاق

وسرد بن عيسى جملة أرقام ومعطيات، كمية وكيفية، قال عنها إنها "تبين إخفاق النظام التعليمي العربي في القيام بالمهمات المنوطة به"، مشيرا إلى أن "من الحقائق المعروفة المتداولة"، أنه "نظام يعيد إنتاج وتدوير الأمية، ولا يتمكن من القضاء عليها".

وقال بن عيسى إنه "ما زال 21 بالمائة من العرب أميين ، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالمتوسط العالمي الذي يصل 13 بالمائة"، مبديا أسفه لكون "مجهود محاربة الأمية قد تراجع في عدة بلدان عربية، نتيجة للحروب الأهلية، والصراعات الداخلية والاضطراب السياسي، وتدني نسبة التمدرس العامة التي لا تتجاوز 85 بالمائة من الفئة العمرية 24-25 سنة، في حين تصل نسبة التسرب المدرسي داخل هذه الفئة قرابة 30 بالمائة ، وهي نسبة مهولة تدل على فشل المدرسة العربية في احتضان وإدماج هذه الفئة التي تمثل أغلبية سكان العالم العربي، وانهيار المدرسة العمومية التي شكلت تاريخياً وعاء المواطنة والجسر إلى الرقي الاجتماعي، ولم تعد في غالب الأحيان قادرة على أداء مهمتها. في حين لا تزيد نسبة التعليم الخاص عن 10 بالمائة نتيجةً لضعف إمكانات الأسر العربية في تمويل تعليم أبنائها. ومن هنا أصبحت المدرسة مؤسسة تعيد إنتاج الفوارق الطبقية والاجتماعية وتزيد من تفاقمها، وانفصام المدرسة عن سوق العمل، إذ تصل النسبة العامة للبطالة في العالم العربي 14,3 بالمائة من القوة العاملة، وهي نسبة مرتفعة تزيد سنويا بواحد بالمائة وتزيد على 30 بالمائة في بعض البلدان، وتراجع استخدام اللغة العربية في النظام التعليمي العربي، خصوصاً في التعليم التقنِّي والفنِّي، بما يعني عجز السلط العمومية المعنية بالتخطيط التربوي على تقديم المنتج المدرسي باللغة الوطنية للطالب".

تحديات العولمة

إلى جانب هذه الاختلالات الجوهرية التي تخص المجتمع العربي، لاحظ بن عيسى أنه يتعين الإشارة إلى "تحديات كبرى تطرحها ديناميكية العولمة الجديدة"، ومن أهمها، أولاً، "تغير وسائط المعرفة والعلم نتيجة لثورة الاتصالات الجديدة التي أثَّرت نوعيّاً على مفهوم التربية ونُظُم اشتغالها"، حيث "لم تعد قاعة الدرس هي الحقل التربوي الأول والأساسي، بل إنَّ وسائط الاتصال المحمولة تولَّت هذا الدَّور وأصبح تأثيرها أقوى وأعمق من المدرسة، رغم ما يطرحه هذا التَّحول من تحديات خطيرة "، مشيرا، في هذا الصدد، إلى أن "الإشكال الكبير المطروح هنا هو كيف يمكن للمدرسة أن تؤمن دقَّة وموضوعية المعلومة المنتشرة والمتاحة ضمن هذا السَّيل المتدفق اللامحدود من المعلومات والمعطيات والأفكار؟ وكيف يتعيَّن الانتقال من نموذج المعلم إلى نموذج رقيب العلم الذي يتولى تنظيم وتنقيح المعلومات المتداولة والمبثوثة على أوسع نطاق؟ وكيف يمكن ملاءمة العملية التربوية مع الثقافة المجانية المفتوحة؟ وإذا كانت المدرسة هي بنت المدينة والدولة الوطنية، فكيف يمكن التفكير في مدرسة جديدة تتناسب مع الحداثة الجديدة القائمة على السيولة والانتقال الحركي والتشارك الأفقي والتجاور الافتراضي والشبكية؟".

وأضاف بن عيسى أن ثاني تحدي كبير تطرحه ديناميكية العولمة الجديدة يتعلق بـ"التغير النوعي في طبيعة العمل وفي ثنائية الإنتاج والاستهلاك التي هي صلب المنظومة الاقتصادية، بما لهذا التَّغير من تأثيـر كبير على مخرجات العملية التربوية". وأوضح أنه "من المعروف أن الثورة التقنية الجديدة قد نقلت مفهوم العمل من الطابع المادي إلى الطابع الإنساني غير المادي القائم على الذكاء الاصطناعي والتصرف الجيني. كما نقلت الاقتصاد من مفهوم التجميع المركزي إلى المفهوم التشاركي. ومن ثَمَّ أصبح التعليم التقليدي عاجزاً عن التأقلم مع سوق العمل الجديدة، سواء تعلَّق الأمر بالاختصاصات والمواد التعليمية أو بإمكانات التشغيل العملية".

أما ثالث تحدي أشار إليه بن عيسى، فيتعلق بـ"تغيـر نوعي في التركيبة الثقافية واللغوية للنظام التربوي بسيطرة اللغة الانجليزية على 51 بالمائة من المحتوى العام في شبكة الإنترنت، في حين لا يتجاوز المحتوى العربي 0,7 بالمائة، مع أن العربية هي اللغة الرابعة من حيث عدد مستخدمي النِّت".

ورأى بن عيسى أن "هذا التفاوت الخطير الناتج عن ضعف الصناعات الثقافية والتربوية العربية له تأثير مُخيف على المنتج التربوي وعلى العملية التعليمية بكاملها، بحيث يغدو السؤال المطروح هو كيف يمكن بناء منظومة تربوية عربية فعالة دون العمل الجادّ على سد الفجوة الرقمية التي تفصل العالم العربي عن العالم المتقدم؟".

وختم بن عيسى، رابع التحديات، بــ"الإشكال المحوري الذي لا بُدَّ أن يطرحه القائمون على التعليم في الوضع الراهن"، وهو: "ما هو المشروع المجتمعي الذي تسعى منظومتنا التربوية لتحقيقه؟ أي بعبارة أخرى، ما هو النموذج الحضاري والمجتمعي الذي يراد للتعليم بمختلف مستوياته أن ينجزه؟".

مسؤوليات النخبة

أكد بن عيسى أنه يبقى من البديهي أن سؤال النموذج الحضاري والمجتمعي الذي يراد للتعليم بمختلف مستوياته أن ينجزه "ليس خاصاً برجل التربية مدرسا كان أو مشرفا على عملية التدريس والتكوين، بل هو من مسؤوليات النُّخبة الفكريَّة والسياسيَّة المُخولة بتصور المُثل الاجتماعية الكبرى وتحديد السُّبل العملية لتجسيدها"؛ قبل أن يستدرك قائلا إن "التربية من دون &هذا الأفق المثالي تكون عقيمة عمياء"، ولذلك "يتعين التذكير أن الفلسفة التربوية التي تبنَّتـْها النخب العربية في العصر الحاضر انتقلت تباعا من هدف بناء مجتمع حديث، ضمن دولة وطنية متماسكة، إلى هدف تحقيق التنمية الشاملة بمفهومها الإنساني المستديم". وزاد قائلا: "إن الهدف الأوَّل تبنَّته نخبة الحركة الوطنية، التي قادت عملية التحرر والاستقلال، واضطلعت ببناء الدولة. وكانت المدرسة لبنة أساسية من لبناته، وكان بالفعل دورها مهما في مشروع تأسيس الدولة وتدعيم الوحدة الوطنية وتوطيد الهوية الخصوصية. إلا أن هذا المشروع عرف انتكاسة قوية في سياق التحولات الكبرى التي مر بها المجتمع العربي، وأفضتْ إلى المأزق الحاد الذي عبَّر عنه ما عُرف بأحداث "الربيع العربي"، التي ما زلنا نعيش مخاضُها العسير وإن كانت بعض البلدان وصلت إلى شطِّ الأمان والبعض، مثل المغرب، نجح فيه خيار الإصلاح والتوافق الوطني. أما الهدف الثاني فظل محدود الأثر، لم يخرج في الغالب من أدبيات المؤسسات المالية الدولية وبرامجها، وكان الجانب الاقتصادي هو المسيطر فيه. وهكذا أريدَ للمدرسة أن تتحول إلى مؤسسة إنتاجية ناجعة بمقاييس المردودية الاقتصادية، فانهارت المدرسة العمومية التي هي الإطار الحاضن للمواطنة والوحدة الوطنية، ولم يتطور التعليم الخاص بصورة فعالة نتيجة لمحدودية الوسائل وضعف القاعدة الاجتماعية".

قرارات جريئة

شدد بن عيسى على أنَّ المشروع الاجتماعي المنشود، بصفته الإطار المرجعي للنظام التربوي العربي، "لا يتشكل إلا من خلال النقاش الفكري الحر والرصين الذي ندعو إليه ونراه خياراً لا محيد عنه لصناعة المستقبل العربي". وزاد موضحا كلامه "إنَّ فلاسفتنا، وهم الفئة المحفزة على التحديث، يحسون بحسرة أنهم مبعدون عن دائرة الفعل المؤثر في تحديث &البُنى &الذهنية &والسلوكية في مجتمعاتنا. إنهم على قلتهم، وهم رأسمالنا الرمزي، لا يُشْركون في صياغة السياسات التعليمية، والجميع يدرك العلاقة الوثيقة بين الفلسفة وعلوم التربية".

وانتهى بن عيسى إلى أنه "إذا كان التحديث غايتنا، فيجب الاتفاق الهادئ على التخلص من ثقل &"الماضوية" المعرقلة للتقدم، وليس الماضي الذي سيظل، شئْنا أم أبيْنا، حاضرا بمعنى من المعاني في راهننا. هذا النهج، سيُفضي إلى قرارات جريئة، تأخذ بعين الاعتبار قدرة كل مجتمع على التعاطي مع صدمة التحديث، بما يترتب عنها من إصلاحات ومراجعات عميقة تطال الكثير من &جوانب الحياة".
&