&عبدالله بشارة

واضح أن أهداف الإرهابيين وراء قتل مجموعة من الأقباط المصريين شدتهم مشاعرهم الصادقة لزيارة مواقع دينية لها منزلة عندهم، حيث استقلوا سيارة لم يتوقع من يقودها ترتيبات الكمين الذي بطش بهم في وحشية تحمل حقداً دفيناً يهدف لفتح أبواب الاضطراب الاجتماعي وسحب مصر إلى فوضى اليأس وتصعيد الكراهية للنظام وشق المجتمع نحو حروب الطوائف.


جاء الإرهاب قاصداً تحطيم أحلام المصريين الذين بدؤوا في التعايش مع إجراءات الرئيس عبدالفتاح السيسي في تصويب الاقتصاد المصري، في التخفيف من عبء الدعم الشامل لمواد اعتاد عليها المصريون وأدت إلى تضخم المصروفات الداخلية وتزايد تغلغل الدولة في مسارات يمكن علاجها بأسلوب أفضل من تصورات الفلسفة التي ورثها نظام السيسي.
بدأ الإرهاب يلعب على الإصلاحات التي أدخلها الرئيس السيسي على النظام الاقتصادي المصري الذي خرج من قرارات اتخذها الرئيس جمال عبدالناصر عام 1961 التي حولت مصر إلى النهج الاشتراكي الذي قضى على المبادرات والإنجازات الاقتصادية الفردية وفق خطة لإنهاء طبقة الرأسمالية التي تصور الرئيس عبدالناصر بأنها وراء الانفصال.
كان الرئيس السيسي واعياً لشروط هذا الزمن الذي يشجع المبادرات والانفتاح ويستنجد بالتكنولوجيا ويعي منافع الاستثمار وتوطينه والبحث عنه في زوايا العالم، مع دعوات لتخفيض حجم أعباء الدولة والاستجابة لصوت التخصيص.
وبهذا الوعي تبنى الرئيس حقائق المستجدات التي تؤسس لمتانة النظام المصري، لكنها تثير غيرة مؤسسات الإرهاب فتصاب بالهلع الذي يدفعها للتفتيش عن الموقع المؤذي والعامل المعطل للوحدة، الذي يفتح مجرى الاستنزاف لطاقة الوطن ويبعثر وحدته ويساهم في إدخال الخوف لدى الطائفة المستهدفة.


مصر وطن غير عادي للمصريين ولغيرهم من العرب والأجانب المتابعين والمعجبين، أقضي كل مساء من العاشرة ليلاً إلى الحادية عشرة متابعاً لبرامج تعيدها قناة اسمها ماسبيرو زمان، فيها الأغاني الفولكلورية والتمثيليات القديمة ومقابلات مع كبار الصحافيين ولقاءات مع معلقين من الجامعات عن كل شيء في حياة مصر، أتابعها بتقدير للمواهب المتنوعة، من طرب مرتفع ومن مقابلات فيها النقد المبطن والحنين إلى شيء مهم اختفى من حياة مصر منذ الخمسينات.
وأنسجم مع المنوعات التي تقدمها القناة في لوحات فنية بين حارات قديمة وفلل حديثة وصور الفلاحات يحملن المياه على رؤوسهن، كل ذلك عبر ديكورات متقنة وأناشيد معبرة عن وجدان المصريين، ويأخذنا الطرب للتمعن في عمق المخزون الفني والثقافي الذي تملكه مصر، والذي يستهدفه الإرهاب.
كان الدستور المصري 1923 أكثر وثائق مصر تسامحاً، وأرفعها في غرس مفاهيم الثقافة، وأكثرها اتساعاً في حماية الرأي وأقواها في حماية الاعلاميين والصحافيين، وأجملها في صناعة حياة سياسية مملوءة بالحيوية والتخاصم الفكري السياسي مع أحزاب متعددة، من وفد وأحرار وسعديين، لكن الأهم أن الطبقة السياسية الممارسة مؤهلة علماً وثقافة، معظم أفرادها من خريجي فرنسا، ومن أصحاب الشهادات العليا، بمجلس شيوخ فاعل وبرلمان صاخب بصلاحيات مؤثرة.
في يونيو 1951، تنشر روز اليوسف مقالاً عن مجلس الشيوخ، تقول فيه: «هم ضحايا نظام فاسد، أفسد أخلاقهم وقتل ضمائرهم وأرشدهم إلى الطريق الدنس الذي يرقون منه، ضحايا الأساتذة الكبار المحترمين الذين علموهم أن للوشاية ثمناً وللوقيعة أجراً وللدسّ على الأبرياء مكافأة».
هذا طعن في النظام السياسي وفي سلوك الملك الذي أفسد أخلاق هؤلاء، كما تشير الصحيفة.
فمهما كان النقد قاسياً تظل الحرية عاملاً يغذي مصر بالكفاءات في مختلف المجالات، ويدرك الرئيس السيسي هذه الحقيقة، كما هو واضح من سعيه إلى إحياء الترابط المصري مع العالم عبر جسور الثقافة والتعليم، بفتح الأبواب التي خسرت مصر كثيراً من إغلاقها في منتصف الخمسينات، ويعرف الرئيس الموقع الذي شغله هؤلاء الرواد الذين خلفوا الثروة الثقافية المصرية التي انحسرت مع الأسف بسبب الجفاف السياسي وإغلاق قنوات الحوار.
أتذكر جيداً الحوارات مع أصدقائي المصريين الذين عرفتهم في نيويورك وواشنطن وكان معظمهم من الأقباط المتميزين.
كنت أحب سابا حبشي باشا الوزير في بداية عهد فاروق، وكانت ابنته هبة تعمل في الأمم المتحدة، تغني الأوبرا وتعزف على البيانو، وآخرين مسلمين وأقباط يعملون في صحافة نيويورك وأساتذة في الجامعات، بانسجام، دون النظر لديانتهم.
كنا في التحضير للمركز الإسلامي في نيويورك نستعين بخبرات مصرية منهم حسين شاهين المهندس المعروف في الجالية المصرية، وآخرين لا أتذكر أسماءهم كانوا مكسباً للجالية العربية ولم يكن الدين والمذهب حاضراً في العلاقات الجميلة التي تجمع الكل، استفادوا من مناخ الحرية ومن المتوافر من التسهيلات، بما في ذلك دخول الجيش الأميركي.


كنت في مكتبي في الرياض حين زارني شخص من السفارة الأميركية، وعرفني بنفسه طيار في الجيش الأميركي وأحضر معه صورة له مع والدته المدعوة لحفلة زفافي في القاهرة عام1966، وحدثني عن نزوح والده مع العائلة من القاهرة، كانوا من الأقباط، رحلوا بحثاً عن الأمان والاطمئنان.
كانت فترة حصيلتها مزيجاً من المتاعب والمكاسب، من الانتصارات والانكسارات، قرأها الرئيس السيسي جيداً وتفحص المفيد وابتعد عن المؤذي، وتبنى النهج الذي تبحث عنه مصر في التآخي الداخلي وفي التعاضد الدبلوماسي العربي، وفي اتساع أبواب الاستفادة من المحطات المتطورة في أوروبا شرقاً وغرباً وأميركا، في العلم والاقتصاد والثقافة والابتكار، وإرسال البعثات وانطلاق داخلي بتطور تدريجي مع تأمين سلامة كل فرد واحترام آدميته وتحصين حقوقه دون تفرقة.
ويتحقق مشروع السيسي مع سيادة القانون والالتزام بأحكامه..

&