&عبدالله السعدون

&المملكة مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بالاهتمام بالقوة في كل مكوناتها، فكما هي في حاجة إلى القوة الصلبة للردع وتأمين الحدود، فهي في حاجة إلى القوة الناعمة لزيادة تأثيرها في العالمين العربي والإسلامي..

القوة الناعمة هي القدرة على الحصول على ما نريد عن طريق الجاذبية بدلاً من الإرغام أو دفع الأموال، أما القوة الصلبة فهي استخدام القوة المسلحة، ومفهوم "القوة الناعمة" استخدم في بداية التسعينات من قبل مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق "جوزيف ناي" في كتابه "ملزمون بالقيادة"، ثم أوردها بالتفصيل في كتابه "القوة الناعمة"، وأهم مكوناتها الثقافة والقيم والفنون والرياضة والإعلام، وقد برعت الولايات المتحدة في استخدامها خاصة ضد الاتحاد السوفييتي أيام الحرب الباردة، فاستخدمت الإعلام الموجه، والأفلام السينمائية، وأبرزت نمط العيش في الغرب، فأسهم ذلك كله في تفكك الاتحاد السوفييتي، وهدمت القوة الناعمة جدار برلين قبل أن تهده المعاول والجرافات.

ومثله ما قامت به الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، فبعد انتهاء الحرب، استخدمت القوة الناعمة في كل من أوروبا واليابان، وجاءت على شكل مساعدات سخية، وقبول أعداد كثيرة من الطلبة من مختلف دول العالم للدراسة في الجامعات الأميركية؛ ليعودوا بعد ذلك إلى بلدانهم سفراء للدولة التي تعلموا فيها.

ولأميركا في بداية القرن الواحد والعشرين تجربة مؤلمة ومكلفة للغاية، وهي غزوها للعراق عام 2003، واستخدام قوتها المفرطة من دون أخذ الموافقة من الأمم المتحدة، كما بنت غزوها للعراق على أكاذيب، مثل ادعاء وجود أسلحة دمار شامل، ودخلت في حرب مكلفة للغاية، وكل ذلك أثر في مصداقيتها، ما جعل قوتها الناعمة في أدنى مستوياتها حتى داخل أوروبا، بعد أن كانت قوية للغاية بعد الهجوم الإرهابي في 11 سبتمبر من عام 2001.

أما الاتحاد السوفييتي فقد استخدم القوة الناعمة بعد الحرب العالمية الثانية ببراعة، ونجح في إبراز دوره في هزيمة النازية، ومساعدة الدول الفقيرة، ونشر أفكاره عن الشيوعية والدعاية ضد الغرب، لكنه مني بانتكاسات كثيرة؛ نظراً لما يمارسه من قمع ومصادرة للحريات داخل دوله، وتركيزه على التسليح على حساب رفاهية الشعب والرقي بخدماته، ما أفقده المصداقية والتفكك في نهاية الأمر.

وفي أوروبا، برزت فرنسا في استخدام القوة الناعمة لنشر ثقافتها ولغتها وآدابها، واستقطبت آلاف الطلبة من مختلف دول العالم، خاصة من شمال أفريقيا ومن مستعمراتها السابقة، وهكذا عملت كل من ألمانيا وبريطانيا، وأسهم في تأثير القوة الناعمة للدول الأوروبية وجود مناخ الحريات والرخاء الاقتصادي ورقي الخدمات. أما اليابان فكانت الصناعة وسيلتها لنشر ثقافتها وقيمها وبروزها كواحدة من أهم مقدمي المساعدات على مستوى العالم من دون التدخل في الشؤون الداخلية للدول، أما الصين فقد كانت منغلقة حتى قام الطلبة باحتجاجاتهم عام 1989، حينها أدركت الحكومة الصينية أهمية القوة الناعمة وتأثيرها الذي ليست له حدود، ما جعلها تهتم بهذا الجانب، وتهتم ببناء دولة قوية اقصادياً وثقافياً، وتحقيق الازدهار الشامل للخدمات، وتوسيع قنوات الإعلام الموجه للخارج، وتقديم إسهامات أكبر للسلام والتنمية البشرية داخل الصين وعلى مستوى العالم.

وفي العصر الحديث، زادت أهمية القوة الناعمة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وسطوة الإنترنت، وانتشار التقنية ودخولها كل بيت، حتى أصبح العالم قرية كونية مترابطة.

والمملكة مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بالاهتمام بالقوة في كل مكوناتها، فكما هي في حاجة إلى القوة الصلبة للردع وتأمين الحدود، فهي في حاجة إلى القوة الناعمة لزيادة تأثيرها في العالمين العربي والإسلامي، فكل نجاح تحققه المملكة في إصلاحاتها الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية يسهم في زيادة قدرتها على ممارسة القوة الناعمة خارجها، فلا شيء كرؤية النجاح على أرض الواقع، وكل تقدم تعيشه المملكة يؤثر في بقية الدول العربية وفي دول العالم الإسلامي وبقية دول العالم.

المملكة من أكثر دول العالم قدرة على استخدام القوة الناعمة؛ لكسب مزيد من الأصدقاء، والتأثير الإيجابي فيهم، وإعطائهم انطباعات إيجابية عن المملكة، ونشر ثقافة السلم والتنمية والتعاون، وذلك باستثمار وجود المقدسات الإسلامية التي يتمنى زيارتها كل فرد من المسلمين البالغ عددهم مليار ونصف المليار نسمة، وهو ما يعني أن نركز على جودة الخدمات المقدمة لكل حاج ومعتمر وسائح ليعود إلى بلده وقد أصبح سفيراً للمملكة، إضافة إلى التركيز على استقطاب مزيد من الطلبة من جميع دول العالم للدراسة في جامعاتها، وهو ما يعني رفع مستوى جامعاتنا لتكون جاذبة لطلبة سيتبوأون مراكز مهمة في بلدانهم عند عودتهم.