سمير عطا الله

كانت الشانزليزيه تُعد أجمل جادة في مدن الأرض: تبدأ من «المسلة» المصرية الذهبية في ساحة «الكونكورد» وتنتهي عند قوس النصر، رمز مجد فرنسا الإمبراطوري. أول ما يحلم الحالمون بزيارة فرنسا في جامعاتهم ومدارسهم وكتبهم والأفلام التي يشاهدونها، هو التمتع بنزهة في الشانزليزيه، أو الجلوس في أحد مقاهيها.

هذه التحفة المعمارية التاريخية حطّمها زعران «الصدريات الصُّفر» وأنزلوا بها التخريب، وتركوا توقيعهم اللاأخلاقي في كل جزء من رحابتها وجمالياتها، كل سبت وهم يرمون عاصمتهم بالكره والحقد والخراب. وفي المقابل، عبر بحر الشمال، يتداول البريطانيون منذ ثلاث سنوات، أهم قضية في مصيرهم الحديث، من دون أن يرموا ورقة في الطريق: هذه القضايا تعالَج في البرلمان، الذي فوَّضه الشعب مناقشة قضاياهم.

وفي هذا البرلمان، الذي هو أبو البرلمانات، يختلف التصويت، ويقترع النواب ضد الحكومة وضد أنفسهم. ويرفض رئيس المجلس حتى مناقشة بعض المقترحات. وتعلو أصوات التأييد والمعارضة. ويخبط الأعضاء على الطاولة أمامهم، موافقةً أو استنكاراً، مثلما كان يفعل أسلافهم قبل مئات السنين. ثم يحصون أصوات اليمين وأصوات اليسار ويعود الجميع إلى بيوتهم، أحياناً بالباص، أو الأندر غراوند.

«قصة مدينتين» التي وضعها شكسبير النثر الإنجليزي عن لندن وباريس، تذكّرني بأنني أمضيت نحو ثلث قرن في عاصمتَي أوروبا. باريس كانت أول أحلامي وأول أرض أوروبية وطأتها في العشرين. وكنت أنوي أن أمضي العمر كله بين مكتباتها وضفافها وقصائدها المنثورة على الطرقات.

لكنني أفقت ذات يوم من أيام 1968، لكي أرى طلابها يشعلونها ويقتلعون حجارتها، لأسباب لا أهمية كبرى لها، مثل زعران الصدريات الصُّفر الآن. دعْك من أنها ثورة. إنه شغب فاجر وعبثي ولا معنى له. كان فيلسوف فرنسا جان بول سارتر يدعو يومها إلى العنف، وأنْ تقلِّد فرنسا بكل حضارتها وعبقرياتها وتقدمها، ثورة ماو تسي تونغ. وفي لندن كان فيلسوفها برتراند راسل، يدعو الكون إلى الهدوء والسكينة، وإلى أن تستمر بريطانيا في ثورتها اليومية من أجل الحريات والمساواة والقانون وحقوق البسطاء.

ما بين جدل «بريكست» وزَعرنات الصدريات الصُّفر، أتذكر دائماً، إرث فيلسوفين: اللورد راسل، علامة التغير والتحول النبيل والبنّاء، وسارتر، الذي بدأ متمرداً على الفكر الاستبدادي، وانتهى مرشداً لطلاب أيار، متدثراً أفكار ماو. ليته عاش ليرى كيف أصبحت الصين.