&فهد الدغيثر&

شحّ الإحصاءات الرسمية المفترض أن تخرج على الأقل أربع مرات في السنة من جهات عدة منوط بها تبني "رؤية السعودية 2030" وبرنامجها المرافق "التحول الوطني"، يدفع البعض إلى الشك بأن هذه الجهات لا تريد الإفصاح. والمخيف أكثر أنها ربما لا تملك أي نتائج إيجابية، بمعنى لم تنجح بعد.


في موضوع البطالة على سبيل المثال، ونحن ندرك أن هناك جهوداً كبيرة للتوطين، ووزارة العمل ليست مسؤولة عن خلق الوظائف الجديدة أصلاً، لكننا لا نطلع إلا على ما نقرأه في المؤشر المئوي، وأقصد نسبة البطالة المئوية، بينما يتوجب علينا استعراض العديد من الأرقام الأخرى ذات الصلة كما سيرد لاحقاً.

في مبادرة "كفاءة الإنفاق"، التي أعتبرها من أهم عناصر التحول الوطني، لا نعلم ما الذي تم بهذا الخصوص، وهل تمكنا من تحقيق بعض الإنجازات بهدف الوصول إلى تكلفة أقل، سواء في الإنشاءات أو الطرق والبنى التحتية أو العقود المتنوعة للصيانة والتشغيل أم لا.

نتحدث كثيراً عن ضعف الرقابة، سواء المتعلقة بحماية المستهلك أم تلك المتصلة بالمخالفات العامة في الشوارع والطرق الرئيسية، أم المحافظة على الممتلكات العامة. هذا الضعف الواضح، يشجع الكثير من المستهترين على ارتكاب المزيد من المخالفات، سواء من يستمر في التهور في قيادة العربة، أم من يمارس الغش في السلع الاستهلاكية أو إتلاف الممتلكات العامة وغير ذلك.

مع الإعلان عن الرؤية وتحديث عدد من الأنظمة والعقوبات واستحداث بعضها من العدم، توقعنا الكثير من الانضباط. لكن، وحتى اللحظة، لا نسمع ولا نقرأ شيء عن أي مؤشرات إيجابية، بمعنى هل طرأ تحسن هنا أو هناك أم لا؟

التعليم هو الآخر في المجهول أمام عين المتابع، على رغم تصدره لعدد من محاور "الرؤية" و"التحول الوطني". لم نسمع بعد عن خطوات كبيرة نحو التطور المنشود سواء في المحتوى (المناهج) أم المقار التعليمية أم تطوير مهارات المعلمين والمعلمات. كما أن استمرار وجود المباني المستأجرة بأدنى المواصفات، شاهد أمام ناظرينا حتى اللحظة وكأن الانتقال إلى مقار تعليمية لائقة حتى مع النية بتخصيص التعليم، يوازي في تعقيداته صناعة قنبلة ذرية.

أعود لموضوع البطالة والحاجة لنشر المزيد من الإحصاءات المكونة للنسبة المئوية لأهميتها. من ذلك عدد الوظائف الجديدة التي تمت إضافتها للاقتصاد كل شهر على سبيل المثال. نتفرع بعد ذلك بتفاصيل الأرقام وكم عدد المواطنين بين هؤلاء. أيضاً لا بد من معرفة عدد الذين قرروا التوقف عن العمل وخرجوا من القائمة، إضافة إلى العدد الجديد من الخريجين والخريجات الذين دخلوا في قائمة طلاب العمل.

في السعودية تحديداً، وبسبب ارتفاع نسبة الشباب بين السكان، فإن انضمام قوائم جديدة من طلاب العمل، يشكل تحدياً كبيراً أمام محاولات التقليل من العاطلين، لأن أعدادهم تزيد عن عدد الوظائف الجديدة المتاحة.

من هنا، النسبة وحدها لا تكفي أبداً ولا تمنحنا الوضوح في حقيقة ما يحدث داخل سوق العمل من ديناميكية مستمرة لا تتوقف.

قد تكون هذه المعلومات متوافرة لدى وزارة العمل، لكنها لا تخرج بصيغة إعلان شهري مفصل، تترقبه الأسواق المالية والقنوات العالمية المتخصصة بمؤشرات النمو والتنمية للاستدلال على تعافي اقتصاد الوطن. على أنني شخصياً لم أجد مثل هذه المعلومات المفصلة لا في موقع الوزارة، ولا في موقع هيئة الإحصاءات العامة.

للعلم والمقارنة، ولإبراز أهمية الإفصاح عن ذلك في الدول الكبرى، يتم الإعلان عن مثل هذه المعلومات بعد إغلاق بورصة نيويورك في أول يوم جمعة بعد نهاية كل شهر، ثم تتفاعل البورصات مع ذلك صباح الإثنين التالي سلباً أو إيجاباً.

حتى في شأن المؤسسات التجارية وبسبب شح المعلومات، يقتصر النقاش في المجالس على عدد من خرج من السوق ولا يتحدث أحد عمن دخله، ناهيكم عن الحديث عن نجاح هذه المؤسسات الجديدة وقد أصبحت مبيعاتهم متوافرة لدى الوزارة بسبب الإفصاح عن ضريبة القيمة المضافة. نحتاج إلى الشفافية هنا، لأنها قد تتحول إلى أدوات تشجع الآخرين للدخول في النشاط وتنمية الأعمال المناسبة لهذا الوقت.

أما في موضوع "كفاءة الإنفاق"، وتحديداً في المباني والطرق والتخطيط السكاني المتطور في المدن والبنى التحتية، فلا يوجد أي تقرير يفيد بأي تحول في الأداء.

شوارعنا وأرصفتها تعتبر الأغلى كلفة في العالم، بسبب مواصفاتها المعقدة. من هذه المواصفات، وضع أرصفة عالية يتبعها تثبيت قطع خرسانية ثقيلة صممت لمنع السيارات من القفز فوق هذا الرصيف وقيادة السيارة في ممر المشاة. تخطيط المسارات لازال ينفذ عبر تثبيت ما يسمى "عيون القطط" وهي الأكثر كلفة من الطلاء وأكثر ضرراً على العربات. لماذا لجأنا لهذه المواصفات الباهظة التكاليف؟ الجواب لأننا استسلمنا لتهور قائدي العربات كما أشرت قبل قليل، ولم نجد إلا العوائق الفيزيولوجية لكبح جماح المتهورين. هذا بالضبط ما يفعله صاحب حظيرة الماشية لمنع الحيوانات من الخروج من حظيرته. العمل على الكفاءة هنا يتطلب تضافر جهود المرور مع الأمانات والتنسيق المتكامل بينهما.

كفاءة الإنفاق تعني أيضاً تطوير أنظمة المشتريات وآلية إرساء العقود، خصوصاً تلك المتصلة بالبنى التحتية. من غير المعقول أن يستغرق بناء جسر في تقاطع طرق رئيسي ثلاث سنوات، كما نشاهد حالياً في طرق رئيسية عدة في الرياض وجدة وغيرها.

في البنى التحتية الواقعة تحت الأرض، لم نخطط لتأسيس وتنفيذ ممر أرضي تستفيد منه جميع الشبكات ذات العلاقة، بدلاً من مطالبة كل جهة باستحداث وحفر الممر الخاص بها كالمياه والكهرباء والهاتف وغيرها. تنسيق هذه الجهات، والاكتفاء بممر أرضي واحد، يعني التقليل من كلفة الصيانة وصيانة الطريق، لإدراكنا بأنه كلما كان التصميم والتنفيذ ذكياً وعملياً، وتوافرت المراقبة الصارمة المدربة على صيانته، كلما انخفضت التكاليف المرتبطة بالصيانة على المدى البعيد.

من المبادرات التي توقعت تطبيقها في موضوع "كفاءة الإنفاق"، إعادة النظر في آلية اختيار المواقع لبعض الجهات الحكومية. كيف يمكن أن نتحدث عن هذه الكفاءة ونحن مستمرون في اختيار المباني الواقعة في قلب المناطق التجارية في المدن، ("طريق الملك فهد") في الرياض مثالاً، كمقار للدوائر الحكومية، بينما لا حاجة لهذه الجهة الحكومية أو تلك أن تتواجد هناك. أمثلة خاطفة لتوضيح هذه الفكرة وجود كل من وزارة الشؤون الإسلامية، المجلس الأعلى للقضاء، النيابة العامة، المحكمة العليا، وزارة الشؤون البلدية والقروية، مجمع إسكان وزارة الخارجية، المؤسسة العامة لتحلية المياه، وكالة الأنباء السعودية وغيرها. هذه الجهات لا يلزمها التواجد في أهم منطقة تجارية في العاصمة ذات السعر الأعلى، سواء لشرائها أم لاستئجارها، فضلاً عن أنها أسهمت بشكل مباشر في الاختناقات المرورية الهائلة داخل منطقة لا تتحمل المزيد من الازدحام.

في مقابل هذه اللوحات الرمادية، نجد مستويات الشفافية في الاستثمارات المحلية والدولية أكثر وضوحاً. ما أقدمت عليه "أرامكو" من استحواذات استراتيجية في الداخل والخارج، وما يحدث في صندوق الاستثمارات العامة من حراك دائم يتصدر أخبار المال والإعلام دولياً، يدفعنا إلى الثقة والتفاؤل، ويؤكد اهتمام القائمين على تنمية هذه الأصول الضخمة كما تم التخطيط لها.

إعلان "الرؤية" و"التحول الوطني"، رفع سقف التوقعات لدى المواطن والمقيم، ودفع الكثير منا إلى الإحساس بقرب الانتقال من الحلم إلى الحقيقة عبر التغيرات الجوهرية المدروسة التي تضفي قيمة لجودة الحياة وتوفر البلايين من الريالات على إنفاق الدولة. ومع الإدراك بأن أمامنا سنوات قبل أن نصل إلى العام ٢٠٣٠، فإن تجاهل بعض الجهات الرسمية الإعلان عن تحقيق مراحل أولية من الأهداف التي تم قبولها والتوقيع عليها والالتزام بتحقيقها قبل أكثر من عامين، يضع المراقب والمتابع كمن يحاول رؤية الأشياء في الظلام، وهذا يسبب إرباكا لدى البعض ويفرض طرح أسئلة كهذه وغيرها، وقد يتبعها مساءلة تنتظر من يجيب عليها.

&

&