مع رفع علم السويد أمام مقر حلف شمال الأطلسي "الناتو" الاثنين الماضي، ومن قبله بأشهر صير إلى رفع العلم الفنلندي في المكان نفسه، يكون الحلف قد بات على مسافة أقرب من أي وقت مضى، من الأراضي الروسية (المسافة بين فنلندا ومدينة بطرسبرغ الروسية 200 كيلومتر).

الانضمام ترافق مع ضجّة غربية كبيرة، ومع حفاوة امتدت عبر ضفتي الأطلسي من البيت الأبيض إلى جمهوريات البلطيق. واعتبر الرئيس الأميركي جو بايدن أنّ انضمام هاتين الدولتين اللتين تقعان في شمال أوروبا، دليل على مضي الأمور في عكس الاتجاه الذي توخّاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من هجومه على أوكرانيا في 22 شباط (فبراير) 2022.

تصور السردية الغربية أنّ فنلندا والسويد تخلّتا عن وضعية الحياد التاريخي، وانضمتا إلى حلف "ناتو" كي تؤمّنان الحماية من احتمال تعرّضهما أيضاً لهجوم روسي في المستقبل. وفي قاموس الغرب أيضاً أنّ غاية بوتين من مهاجمة أوكرانيا، هي وضع حدّ لتمدّد الحلف الغربي نحو الحدود الروسية منذ أواخر التسعينات من القرن الماضي وحتى انضمام آخر عضوين.

ومع ذلك، لا يمكن الغرب أن يلغي أمراً في غاية الأهمية. إنّ الهجوم على أوكرانيا لم يكن لدوافع "امبريالية" محضّة كما تقول الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية. بل أنّ روسيا تناقش منذ عقود مع أميركا مسألة توسع الحلف نحو حدودها، وتبدي القلق منذ أيام بوريس يلتسين (صديق الغرب وحليفه) حيال مسألة تراها موسكو انّها موجّهة ضدّها بالدرجة الأولى.

في عام 2007، تساءل بوتين (وكانت روسيا لا تزال على علاقات وثيقة مع العالم الغربي ولها مقعد ثامن إلى جانب مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى) في خطابه الشهير أمام مؤتمر ميونيخ للأمن، عن الأسباب التي تحدو بحلف الأطلسي إلى التوسع نحو حدود روسيا. وفي العام التالي، أي في عام 2008، أصرّ الرئيس الأميركي عامذاك جورج دبليو بوش، خلافاً لتحفّظ فرنسا وألمانيا، على دعوة أوكرانيا وجورجيا للانضمام إلى الحلف.

هل انضمام السويد وفنلندا يزيد من الاستقرار ويعزز هياكل الأمن في أوروبا؟ ليس بالضرورة، لأنّ الكرملين سيكون مجبراً كما يحذّر مسؤولوه، على تعزيز قواته في مواجهة فنلندا والسويد، براً وفي بحر البلطيق الذي تحوّل إلى شبه بحيرة أطلسية. ومنذ أشهر تشهد الحدود الروسية- الفنلندية توتراً بسبب اتهامات هلسنكي لموسكو بدفع لاجئين ومهاجرين نحو الحدود الفنلندية ليدخلوها بطرق غير شرعية. وأدّى التوتر إلى اغلاق فنلندا لحدودها بالكامل مع روسيا.

وأحياناً يُستحضر التاريخ بين الدول في لحظات الأزمات. روسيا وفنلندا خاضتا حروباً عديدة، منذ أيام القياصرة إلى ستالين. والأمر نفسه ينطبق على السويد التي غزا ملكها كارل الثاني عشر في أوائل القرن الثامن عشر، روسيا، وفرّ منها مهزوماً ولائذاً بحماية الإمبراطورية العثمانية.

إنّ أوروبا بعد الحرب الروسية- الأوكرانية، هي غيرها قبل الحرب. ووجه القارة يتغيّر بعدما اكتشفت أنّها عاشت منذ انتهاء الحرب الباردة في وهم السلام، وأنّ جدار برلين لن يعود مجدداً، وأنّ التاريخ انتهى فعلاً بتفكّك الاتحاد السوفياتي.

نعم، أخطأ بوتين بالهجوم على أوكرانيا، لكن الغرب يخطئ أيضاً باقتصار ردّه على روسيا، بدعم عسكري لأوكرانيا وعلى تعبئة كل موارده من أجل إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، وإقفال كل الطرق المؤدية إلى الحوار.

عندما غزت الولايات المتحدة العراق عام 2003 بحجة كاذبة عن أسلحة الدمار الشامل، ودمّرت بلداً عن بكرة أبيه ولا يزال يعيش في ترددات هذا الغزو، لماذا لم تحاسب نفسها. وقبل العراق، هناك أفغانستان وفيتنام وكوريا.

إنّ تمدّد الأطلسي أكثر نحو روسيا، يجعل احتمالات المواجهة المباشرة بين موسكو وحلف شمال الأطلسي أقرب من أي وقت مضى، وهي مواجهة لا يؤمَن بألاّ تتحول نووية وتفضي إلى القضاء على الحضارة.