طريق الدول الفقيرة إلى التحديث ليست مسدودة. من ينشأ في حياة صعبة يتعوّد على أن يَغزِل ولو برِجل حمار، ويتعلَّم أن الكسبَ لا يتأتَّى بغير جهدٍ ومخاطرة. هاتان ميزتان مهمتان - الصلابةُ وسعةُ الحيلة. كما أنَّ مهمةَ إقناع الفقير أنَّ الاجتهاد فرصتُه الوحيدة أسهلُ من إقناع الثري. يحتاج الأمر إلى رؤية اقتصاديةٍ ناجعة، وإلى عرض الحقائق على المواطنين.

وهنا يأتي دور الاشتراكية، كلعنةٍ درامية إغريقية. بدلاً من استغلال همَّة ذي الحاجة ورغبتِه في تحسين حاله، توسوس له بدعاية تُقعده، وتُقنعه أنَّه صاحبُ حقٍ مسلوب، وأنَّ الدولة ستردُّه إليه. هذه مرحلة أولى في الدولة الاشتراكية. مرحلة روبن هود. حيث تَنْصب الدعاية على ترويج أنَّ الاستيلاء على أموال الأثرياء وتوزيعها على الفقراء فعل عادل ونبيل.

سياسياً، تكسب الدولة الانفرادَ بالسيطرة على الثروة، وبالتالي تكسب مزيداً من التحكم في مصالح المواطنين. لكن اجتماعياً تُرَسِّخ لدى الفقير شعور الاستحقاق، وسلوك انتظار نصيبه من القسمة، بدلاً من التفكير في التنافس على بناء ثروته. وتُهدِر جيلَ اليد العاملة المقتنعة أنَّها لن تكسب قرشاً بلا عمل. وتبدأ خلقاً جديداً غريباً يمكننا أن نسميَه «الفقير المدلل».

وهل يكون الفقير أبداً مدللاً؟

نعم. ليس مدللاً بالرفاهية، بل مدلل بضمان الكفاف دون جهد ولا مخاطرة. بضمان التوظيفِ، والتعليم والصحة، والكساء، ولا بأس ببعض الأرضِ الزراعية أو شقة مستأجرة صارت في حكم المُمتَلَكَة. هذه نقلة مفاجئة بالنسبة لقطاع عريض في أمة فقيرة. وهي ممكنة الحدوث بسبب هجمة من الدولة على ثروات الأثرياء من مواطنيها. لكنَّها ترسّخ لدى الفقراء فكرةً إضافية: أنَّ الدولة قادرة على الإنفاق عليهم إن عزمت. وهذا وجه العملة الآخر لأسطورة أنَّ «البلد ثرية لكن اللصوص سرقوها» التي ستعود لتطارد الدولة بعد حين. لحظة التدليل الأولى تلك، لحظة رشوة المواطنين، لحظة ارتكاب الخطيئة الاقتصادية الجذرية، ستتحول إلى زمن ذهبي يتحاكى الناس عنه، وعن الدولة القوية السخية، ويستخدمونه مرجعاً وحجة. الجيل التالي من أبناء الفقراء، الذي نشأ على تلك الحكايات، سينشأ قليل المهارات، ناقماً متذمراً، معتقداً أنَّ كل ما حصل عليه أبواه حق مكتسبٌ حرمته الدولة منه.

وهنا ننتقل إلى المرحلة الثانية في الرحلة الحتمية للدولة الاشتراكية، مرحلة وقوعها في الحفرة التي حفرتها بنفسها، أو مرحلة الحلزونة الاقتصادية إن تخيلنا شكلاً مادياً لمسار المعادلة الحسابية. لقد تخلَّصت الدولة من كبار الملاك والمستثمرين، لكن الفقراء الذين حصلوا على نصيب من الغنائم لم يستثمروه كونه دون عتبة الاستثمار. والمشاريع التي ادعت الدولة أنَّها ستديرها أحسنَ من ملَّاكها الأصليين فشلت، لأسباب موضوعية، أبرزها أنَّ موظفي الدولة لا يملكون خبرة الإدارة، ولا مهارات الصنعة، وأنَّ مكافأة الربح وعقوبة الخسارة اختفتا من المعادلة.

ماذا تفعل؟ ليس أمام الدولة إلا الطريق إلى أسفل. ستركّز جهدها على تجريد الطبقة التالية من ثرواتها. هذه المرة ستواجه صغار الملاك، بلا دعاية حقوق تاريخية تسلب بها ثرواتهم. لكن في جعبتها وسوسة اشتراكية أخرى. ستترك لهم أملاكَهم وتكتفي بتجريدهم من خصائص التملك. سيبقى مالك العقار مالكاً للعقار، لكنَّه سيفقد الحق في رفع القيمة الإيجارية تماشياً مع التضخم، أو في إنهاء العقد بعد أجل، أو حتى استرداد الشقة بعد وفاة مستأجرها ولأجيال بعده. سيكون المالك الأصلي مات، وورثته الأولون ماتوا. لا هذا استفاد من ملكه، ولا هم استفادوا من إرثهم. ظلمت الدولة صغارَ الملاك أيضاً لكي تدلل المستأجرين وتجاملهم من ملك غيرها. وفي المحصلة أنَّ مستأجر شقة واحدة سيكسب نسبياً أكثر من مالك عشرين شقة. هنا ترتاح الدولة الاشتراكية أنَّها شدت فئة أخرى من أصحاب الثروة إلى أسفل. فإن سألناها لماذا، ردت «علشان الفقير». تخيلوا فصلاً دراسياً يُخصم فيه 10 نقاط من كل متفوق لكي تضاف إلى أصحاب الدرجات المحدود. كيف تتوقعون أن يؤثر هذا على التنافسية في الفصل؟ وكيف ستؤثر هذه السياسة على مستقبل النتائج فيه؟

سيصير لدينا فاشلون مدللون... ومتفوقون محبطون.

ولن تتوقَّف الحلزونة الاقتصادية. الفقير سيفهم عقلية الدولة الاقتصادية ويحللها بعيداً عن الهري الآيديولوجي. إن كانت الدولة تدعم تعليم الابن الواحد من أبنائه بألف دولار، فسوف يحصل على دعم بـستة آلاف دولار إن أنجب ستةَ أطفال. ومثلها من الدعم التمويني. ومثلها من دعم الخبز. وتتَّسع دائرة التوالد في الفقر.

ومع تلك الأعباء المتزايدة ستضطر الدولة الاشتراكية إلى البحث عن ضحايا جدد تحرمهم من بعض الثروة. هذه المرة ستلاحق الطبقة الوسطى العادية، والمخالفة «استفزاز الفقير». سيدفع الفرد المتوسط الدخل ثمن كل سلعة لا يشتريها الفقراء أضعافاً. إن اشترى شامبو سعره دولاران عليه أن يدفعَ دولارين إضافيين دمغات وجمارك وضرائب. باختصار، تمضي الدولة الاشتراكية برعاياها في مسار حتمي، مآله الوحيد موجات تضخمية تلاحق بعضُها بعضاً، وتجز كل واحدة رؤوس الثروات التي شبَّت حديثاً وتعيدها إلى أسفل. لن تتوقف الاشتراكية الاقتصادية عن اقتصادها الحلزوني حتى نصير جميعاً فقراء. وقتها فقط ستخبرنا بالحقيقة. أنَّها لم تعد تملك ما تدللنا به. وأنَّ من حملنا على أكتافه ونهض بمجتمعنا سابقاً كان المستثمرون وليس الموظفون. وأنَّ انهيار الاقتصاد يضرُّ فرصَ الفقراء أكثر من غيرهم.