موسوعة المستوطنات الصهيونية في فلسطين للمفكر والباحث علي نجم الدين، تعيد فتح نوافذ الماضي المؤلم وجراحه التي لم تلتئم، وتقدم حقائق نجهلها عن تاريخ المستوطنات من خلال الأرشيف الصهيوني.

عن هيئة جائزة سليمان عرار للفكر والثقافة صدرت مؤخرا "موسوعة المستوطنات الصهيونية في فلسطين"، للمفكر والباحث الأستاذ علي نجم الدين لتسد فجوة كبيرة في المكتبة العربية لكون الباحث اعتمد على الأرشيف الصهيوني وروايته الخاصة في المستعمرات وبداياتها وكيفية إنشائها، وليس على ما كتبه العرب عن الموضوع وأكثره مشاعر وعواطف تشبه أشعارهم، دون التدخل في تلك الرواية كما ذكر في كتابه، بل نقل المعلومات والأحداث كما وردت في الأرشيف فيقول: " نشير إلى أننا لم نتدخل أو نغير أو نضيف من خلال ترجمتنا على المعلومات الواردة في الوثائق الصهيونية، وهي بالتالي تعبر عن الرواية الصهيونية من حيث دقتها أو ثبوت صحتها".

وفي الواقع ليست كثيرة الكتب التي ألفها الفلسطينيون والعرب عموما حول المستوطنات وتاريخ إنشائها، وما كتبوه لا يفي بالغرض إذ لا يشفي ظمأ عطش للمعلومات ولمعرفة التاريخ والأحداث ووقائعها على حقيقتها، وبالتالي لا يؤدي دورا وظيفيا مهما. بل نستطيع القول إن ما ألفه الإسرائيليون أنفسهم وكتبوه من بحوث وأدبيات، وما أنتجوه من أفلام سينمائية أكثر بكثير من نتاج العرب أصحاب القضية والأرض..

يأتي هذا الكتاب وسط شح في المعلومات حول الموضوع، وقلة المؤلفات ليطرح سؤالا مهما وهو: أين هي مراكز البحوث العربية وبالأخص الفلسطينية..؟ وإلى متى ستبقى صفحات الأرشيف الصهيوني دفينة الصناديق من دون أن تُقدم للقارئ العربي لكي يدرك مدى وحقيقة الخطر المُحدق في مستقبله ومستقبل أمته..؟ وكذلك أين هم الباحثون الذين من المفروض أن يكون عملهم الأساس بين صفحات الوثائق والأرشيف والكشف عما في بواطنه، وليس اللهاث وراء الفضائيات والظهور على شاشاتها..؟!

إن أول ما يصيب القارئ وهو يقرأ صفحات هذا الكتاب هو الذهول من الأرقام الواردة، ومن تفاصيل الأحداث ومجرياتها. ويتفاجأ أيضا بأن الاستيطان قد بدأ في أيام الخلافة العثمانية، وأن أول مستعمرة أنشئت هي "مكفية إسرائيل" Mekven Israel، وذلك في عام 1870 وكانت على أراضي يازور وسلمى من قضاء يافا، وبتمويل من البارون روتشيلد الذي سخر ماله وعلاقاته من أجل توطيد المستوطنات وبنائها في حينها. وأن أول مستعمرة تأسست في القدس الشريف كان اسمها "بيت إسرائيل" Beit Israel، أو مكان المعبد أو الهيكل، وتأسست عام 1874.

فيحس القارئ في لحظة وهو يقرأ كل تلك التواريخ والأحداث كأن سكينا تُقطع لحمه، وبأنه أمام داعشية من نوع آخر. إنها الصهيونية الوجه الآخر للداعشية..! وإلا فماذا نُسمي الذين أفرغوا القرى من أهلها، واستولوا على منازلهم وأراضيهم وسرقوا التاريخ من باطن الأرض ونسبوه لأنفسهم، وقتلوا من قتلوا باسم توراة لا أحد يعرف أين منتهى تأويلاتها، ودبجوا تفاصيل تاريخ كلنا يعرف كذبها، ويعرف أيضا من أين، وكيف، ولماذا، أتوا إلى هذه الأرض..!؟

بل يحس أنه أمام مرض سرطاني يبدأ بنقطة صغيرة عدة مئات من المستوطنين في مساحة متواضعة لا تلبث أن تصبح عدة آلاف ثم عشرات الآلاف.. وهكذا إلى أن يستشري السرطان في كل الجسد.. يتابع القارئ الكاتب في سرده وتعداده للمستوطنات فيحس وكأنه يراقب من يجلده مع كل كلمة..! فهذه مدن أزيلت عن الخارطة وبُني مكانها مدن أخرى.. وهؤلاء سكانٌ هُجِّروا من أراضيهم وأجْبروا على تركها، لتأتي شعوبٌ أخرى باسم أحلام توراتية وتاريخ مفبرك، فيصبحوا هم أصحاب الأرض والحق. بينما صاحب الأرض يجتر جروحه ويتفرج على أرضه وزرعه وبيوت أجداده على شاشات التلفاز..

ومن المفاجئات الكثيرة التي حواها هذا الكتاب هو أن مستعمرات عديدة كان من المفروض أن تكون ووفقا لقرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة تابعة إما إلى لبنان أو سورية أو الأردن.. فلماذا لم يتم ذلك..؟ ومن تدخل للسكوت عن ذلك..؟ وما الأسباب والمسببات التي أدت إلى ذلك..؟ مما لا شك فيه أن مثل هذه المعلومات متوفرة وموجودة، ولكن يحتاج الموضوع إلى كثير أناة وصبر وبحث في الأرشيف لكي نكتشف يوما خيانة من نوع آخر أيضا..!

&

منهجية في عرض الأحداث والوقائع

لا يحتاج المطلع على هذا الكتاب إلى كثير وقت ليُدرك مدى الجهد الذي بذله مؤلفه لفتح ثغرة في أبواب الماضي والتاريخ، بل في أبواب جهنم إن صحَّ التعبير، وكشف الحقائق والخيانات لكي يوصل المعلومة والحقيقة لقوم أقل ما يمكن أن يقال فيهم: إنهم نيام.

إن من أهم ما يميز هذا الكتاب هو منهجيته الدقيقة في سرد الوقائع والأحداث حيث أتت جمله وعباراته مباشرة، وبعيدة عن الإنشاء والأسلوب العربي في الكتابة، ودون بكائيات. لأنه يعتمد على بكاء القارئ لكل سطر مما يقدمه له على مائدة روحه.. فكتابة التاريخ بحد ذاتها تقطيع في اللحم الحيّ، فما بالك عندما تكون في جراح نازفة أمام ناظرينا نعيش أحداثها ويومياتها وندفع ثمن هذه الجراح كشعوب عربية فنذبح يوميا من الوريد إلى الوريد. يمرر الباحث الأحداث للقارئ وعليه هو أن يدرك ويقدر عظم المأساة القائمة منذ أن قرر الصهاينة القيام بمشروعهم.

إنه عمل دقيق للغاية يقول الأشياء ويسميها بأسمائها دون خوف ولا حرج. وتوثيق لا غبار عليه مطلقا ضمن عملية مسح سياسي وتاريخي شامل يتعامل فيها مع كل ما هو متاح أمامه من معلومات. إنه تأريخ غير مباشر لكل ما كان قائما من قبل أن يأتي شذّاذ الآفاق ويغيروا التاريخ والمعالم والأسماء.. كتاب يعيد ترتيب الحقائق إلى ما كانت عليه قبل أن تُسْتبدل بالترهات التوراتية التي ركبت على المقاس..

يذكر الباحث اسم المستوطنة بالأحرف اللاتينية والعبرية والعربية، وما تعنيه تلك التسمية لغويا ودينيا، وأسباب التسمية أيضا، وفيما لو تغير اسم المستوطنة أو تبدل مع الوقت، وماذا كانت تدعى تلك المنطقة أو القرية قبل ذلك ومن كان يسكنها من العرب، واشتقاق اسمها كمستعمرة كنيرت Kinneret مثلا وهو الاسم الكنعاني لبحيرة طبرية.. بالإضافة إلى تاريخ إنشائها والجهة التي قامت بذلك جمعية كانت أو شخصا. محددا موقعها الجغرافي وإحداثياتها، واسم بائع الأرض ومساحتها ومشتريها، وفيما لو تدخل في سبيل ذلك وسيط كسفير أو قنصل أو سمسار أو الاستعمار البريطاني. أو فيما لو استولوا عليها كذبا وزورا من خلال تزوير المستندات أو بتآمر بعض الموظفين بسبب الرشاوي كما في مستوطنة Rishon

Letzion التي تم شراء أراضيها بوساطة مصطفى عبد الله الدجاني الذي سهَّل أيضا استخراج تصاريح البناء من السلطات العثمانية.

دون نسيان عدد البيوت التي بنيت فيها في بدايتها، وعدد السكان وأصولهم العرقية والبلد الذي أتوا منه، ومجالهم العملي والصناعي والتجاري. متابعا تطورها وأيضا دورها في الحروب والثورات والانتفاضات التي شهدتها أرض فلسطين، وأهم الأحداث التي وقعت في تلك المستعمرة، وفيما إن كانت قد تعرضت لهجمات فدائية أو قصف مدفعي، وما في تلك المنطقة من آثار قديمة وقبور أولياء أزيلت أو غيرت معالمها أو ما زالت قائمة. ويعرفنا أيضا على مؤسسي الجمعيات والمؤسسات والمنظمات الصهيونية التي كان لها دور فعال في بناء المستوطنات والهجرة الصهيونية وفي إنشاء دولة إسرائيل، وكذلك دورها في ترسيخ الفكر الصهيوني ومدارسه..

ومن المؤكد أن الباحث كان يدرك أن كثيرين لن يُعْجبهم ذِكْرُ أسماء عائلاتهم أو أجدادهم ضمن لائحة من باعوا الأراضي أو سهَّلوا عملية البيع تلك.. ولكن طالما أنه يعمل بأمانة وحيادية ومهنية على وثائق تاريخية، واضعا عواطفه بعيدا عن عقله وسطوره، مُجْهدا نفسه من أجل المعلومة، مُفصِّصا الكلمات ونافضها لكي تتساقط منها النجوم المضيئة أعني الحقائق، فإنه لا يهمه رأي الآخرين ولا مشاعرهم..! فلا يزعجه أن يذكر فلسطينيا أو عربيا من عائلة كذا أو كذا قد خان أمته ووطنه وباع أو سهل عملية البيع، أو قبض رشوة لبيع أراض للمستعمرة الفلانية.. إنه التاريخ الذي يلعن ولا ينسى تلك الأسماء والعائلات مثل عائلة سرسق اللبنانية، والإقطاعي سليم الخوري، ونخلة تويني، وأحمد توري، وماري بسطروس، والشيخ صالح حمدان، والمحامي إبراهيم أبو شديد واللائحة تطول.

الكتاب خمسة أقسام، كل قسم يتناول حقبة تاريخية شكلت مِفْصلا مهما في موضوع بناء المستوطنات. بدأه بمرحلة الحكم العثماني وما أنشئ خلالها من مستوطنات لا يوليها الباحثون العرب اهتماما، بل كثيرون لا يعرفون عنها شيئا. لتأتي مرحلة الاستعمار البريطاني، وما بعد حرب 1948 ولغاية 1967، ثم مرحلة ما بعد الهزيمة ولغاية أوسلو، ومن أوسلو إلى وقتنا الحاضر. وهذا التقسيم يسمح للقارئ بوضع كل مستوطنة في إطارها الزمني والتاريخي ويحدد بالتالي ظروفها

السياسية. ليذكر بعدها المدن الكبرى التي أنشئت أو كانت موجودة فأعطوها اسما جديدا بعدما غيروا معالمها ليصل إلى الحديث عن المجالس المحلية والإقليمية.

&

خاتمة وأمنيات

إن هذا الكتاب هو ثمرة جهد قام به فرد من المفروض أن يقوم به وعليه مجموعة وجيش من الباحثين.. كتبه بحيادية وموضوعية وأمانة علمية يُشكر عليها لكونه لم يسمح لعواطفه ومشاعره أن تطغى على ما يُقدمه لنا من معلومات. وعند قراءة سطوره يحس القارئ بلا شك بقدر الجهد الذي بُذل، وبأن ما كتبه غيره عن الموضوع ضئيل جدا أمام هذا السيل الضخم أو التسونامي الذي يقدمه لنا من خلال هذا الكتاب.. إنه يفتح الأبواب للباحثين لكي يقوموا بدورهم والبحث والكتابة مجددا عن الموضوع وعن شخصيات ساهمت بفعالية في جريمة الاستيطان، ووضع كتاب مستقل حول كل شخصية منها كالبارون روتشيلد ودوره مثلا، والإقطاعيين اللبنانيين والفلسطينيين.. الخ. الباحث على نجم الدين يحفر في الصحراء بئرا لمن أراد الشرب، وعلى الظمأى توسيع فتحة ذلك البئر والذهاب إلى أبعد مما ذهب إليه في سبيل استخراج الحقائق..

أمنيات أن تتم متابعة البحث في هذا الأرشيف الذي يفضح ليس كذب الصهاينة فيما يقدمونه من روايات للتاريخ فقط، بل أيضا كل المساهمين من وراء ستار، والصامتين على ما حدث يوما ويحدث.. وأمل في أن يُستتبع هذا العمل الضخم يوما بقرص مُدمَّج يحوي الصور المتوفرة لتلك المدن والقرى التي أزيلت، وللمستعمرات في بدايتها وما هي عليه اليوم، وكذلك لموقعها على الخارطة. والأهم هو القيام بفهرسة كاملة للكتاب، وهو بحد ذاته عمل شاق آخر، ولكن لا بد منه ليكون هذا العمل على أفضل ما يكون. لأن الفهرسة سوف تسهل على الطلبة والباحثين الآخرين التنقل والسفر في صفحاته، وتشكل مفاتيح لأبواب يصعب فتحها بدونها..

&

باريس

كاتب وباحث