الشعب الذي احترق بوهج الغلاء ولهيبه، كان يهفو أن يجد النجدة والغوث في مراكز البيع المخفض، التي تقمصها تجار أطاع بعضهم شيطان الجشع فسلكوا مسالكه، ووردوا مناهله، فانهارت دعائم رحمتهم، ودرست سُبل شفقتهم، بصرعى الفاقة، وطرائد الملق، الذين صبروا على مآلات رفع الدعم عن المحروقات، التي داستهم بأخفافها، ووطئتهم بأظلافها، وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، نعم لقد ظنّ من يكابدون فتناً انجذم فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين، أن هذه المراكز التي لا تختلف عن لظى السوق في شيء، سوف تُذهب ارتعاد فرائصهم، وتقيم انحناء ظهورهم، ولكنها كسعت آمالهم بالخذلان، ولم يجنوا منها سوى الخيبة والهوان، فقد تحلّت هذه المراكز بحِلْية السوق، وتَسَوّمت بسِيماهُ، والدولة المشبل صاحبة الأيادي العظيمة، والهبات الجسيمة، جادت بالوبل، وهطلتْ بالغيث، رأفة بمن اعتورتهم الليالي، وفاجأهم الزمان، فهي تدرك بحسها المرهف النوائب المقرحة، والنوازل المبرحة، التي يصارعها هذا الشعب، فقررت وهي الحانية العطوف، أن تنشئ هذه المراكز التي أخلّت بالآمال، وأزرت بالأماني، فالسواد الأعظم من هذا الشعب الصابر على عرك الشدائد، عدّها عوناً ظهيرًا، وردءاً نصيرًا، ولكنها حاصت عن الرشد، وحادت عن القصد الذي من أجله أنشئت.

إنّ المواطن الذي قصر جهده على عمله، فلم يعد يكترث لحدث، أو يحفل برأي، غاية آماله، وحديث أمانيه، أن يجد النزر القليل من الطعام الوخيم، الذي يقيم أوده وأود عياله، بسعر يتوافق مع راتبه الكليل، فالتاجر الجشع الحلو اللسان، الشحيح الإحسان، يخضم ماله كلهُ خضم الإبل نبتة الخريف، والشيء الذي يذهل العقول، ويوجب الجزع، أن المواطن الذي اكتسى جسده النحول، وغمر جسمه الذبول، حينما عظُمتْ فيه سطوة التاجر، وتتابعت عليه حنادسُ غمرتهُ، فرّ إلى تلك المراكز، التي لا تتوفر فيها السلع الضرورية، فوجد آخر على شاكلته لا ينشد سوى الورق المالي الصفيق، بضاعته بالجشع محروسة، ويداه بالغلاء مبسوطة، فأسبلت عبرته، وشرق بلوعته، فحتى متى أيها السادة تغض الدولة الطرف عن البطون الغرثى، والأكباد الحرّى، التي زادها السّغب، وعيشها الضنك، متى تتحرك حوبته عليهم، أعندما يُجعل لهم من الصفيح أجْنَان، ومن التُّرابِ أكْفان، ومن الأجداثِ جيران، ليت شعري متى تقمع الدولة جيْشاتِ الأباطيل، وتدمغ صولات الأضاليل، وترحم من ضعضعته النوائب، ولازمته المصائب، متى تخلط الشدة بضِغْثِ من اللين مع الجحود الكنود، والحيود الميود، التاجر الجشع الذي ضلت الحيل، وانقطع الأمل في تقويم اعوجاجه، فقد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه.

إنّ الحقيقة التي لا يغالي فيها أحد أن صاحب المراتب السّنيّة في الشره، والدرجات الرفيعة في الشطط، قد اتّخذ من سياسة التحرير حبلاً وثيقاً عروتهُ، ومعقلاً منيعاً ذروته، للغنى والرياش بها اشتدت شكيمته، وثقلت على صرعاه وطأته، فمتى تسعى حكومتنا الرشيدة التي شاع حُسْنُ الذكر لها، وذاعت المحامد عنها لخفض رفعته، وكبح تطاوله، فقد سام أنضاء العوز والكلال بخسف، ونشر فيهم رايات اليأس والقنوط، من غد نطقه كاذب، وبرقه خالب، ووعده ممطول.