أواخر سبتمبر - أيلول 1940، كان فوْج من المهاجرين الالمان، جلّهم من اليهود يتأهّب لعبور الحدود الفرنسيّة - الإسبانيّة فرارًا من الجيش النّازيّ الذي كان قد اجتاح فرنسا، واحتلّ باريس. وكان فالتر بنيامين، المفكّر والمثقّف اللّامع، والذي لم يكن معروفًا انذاك إلا لدى حلقات فكريّة، وأدبيّة، وفلسفيّة ضيّقة، ضمن الفوج.&

ليلة 25 من سبتمبر - أيلول من العام المذكور، كتب بالفرنسيّة بطاقة إلى السيّدة "غولاند" قائلا لها:"في وضع لا خلاص منه كمثل هذا الوضع، ليس لي أيّ خيار سوى أن أضع له حدًّا. في قرية صغيرة في جبال "البيريني" حيث لا يعرفني أحد، سوف تنتهي حياتي. أتوسّل لك أن تنقلي أفكاري إلى صديقي أدورنو، وتشرحي له الوضعيّة التي فيها وجدتّ نفسي. لم يتبقّ لي وقت كثير لكتابة الرسائل التي كنت أودّ أن اكتبها".&

وما ورد في البطاقة المذكورة يدلّ دلالة قاطعة على أن فالتر ينيامين كان يتخبّط في حالة من اليأس المطلق. وهذا ما يفسّر تفكيره في الإنتحار خصوصًا بعد أن أوقفت الشرطة الإسبانيّة فوج المهاجرين الألمان في النّقطة الحدوديّة المسمّاة "بورت-بو" مخبرة من كانوا فيه أنها ستكون مضطرّة إلى إعادتهم إلى فرنسا.&

زاد ذلك القرار المجحف في تفاقم حالة اليأس عند فالتر بنيامين فسارع بالتهام كمّية كبيرة من أقراص النّوم كانت كافية لقتله في اليوم التّالي، أي يوم 26 سبتمبر - أيلول 1940،. وفي يوميّات فرانز كرافت وبتاريخ 29 ديسمبر - كانون الأوّل من العام المذكور، نحن نعثر على مزيد من المعلومات بخصوص نهاية فالتر بنيامين المأساويّة إذ أنّه كتب يقول: "تفاصيل عن وفاة بنيامين. السّلطات الفرنسيّة لا تمنح تأشيرة خروج للمهاجرين اليهود. لذا هم يجتازون الحدود باتّجاه إسبانيا بصفة غير شرعيّة.&

&

الحظ العاثر وسم مسيرة فالتر بنيامين

&

عندما وصل فوج المهاجرين إلى القرية الحدوديّة الإسبانيّة، تمّ إبلاغهم بأنّ الدخول ممنوع على اليهود، لذا عليهم أن يعودوا من حيث أتوا. وهذا يعني إرسالهم إلى المعسكرات النّازيّة. ويبدو ان أعصاب بنيامين لم تتحمّل ذلك، لذا تناول كميّة كبيرة من أقراص النوم. وفي اللّيل أيقظ أحدهم، وأعلمه بما قام به خفية عن العيون. والطبيب الذي تمّ استدعاؤه لم يتمكّن من إنقاذه. ومن المحتمل أنه لم يكن من الصّعب انقاذه. لكنّه توفّي. صبيحة اليوم التّالي كان الوضع مختلفًا تمامًا عن الوضع السّابق. فرجال الجمارك كانوا قد كذبوا.&

فقد كانوا يريدون الحصول على "بقشيش". لذلك تمكّن الاخرون من اجتياز الحدود". ويبدو أن فالتر بنيامين لم يكن يحمل معه أيّ مخطوط من أعماله. وذلك ما يؤكّده هو نفسه في رسالة بعث بها إلى صديقه ألفريد كوهين في 20 يوليو - تمّوز 1940.&

وعلى أيّة حال ما نحن نستنتجه من هذه النهاية المأساويّة هو أن فالتر بنيامين كان ضحيّة الحظّ العاثر الذي وسَمَ مسيرته في مراحل مختلفة من حياته معرّضًا إيّاه إلى مشاكل عويصة ومزعجة. وفي النهاية كانت سببًا في انتحاره.&

ومثل فرانز كافكا لم يحصل على الشّهرة التي كان يستحقّها عن جدارة إلاّ بعد نهاية الحرب الكونيّة الثانية. فقد ترجمت أعماله إلى العديد من اللّغات لتصبح مراجع أساسيّة في الفكر، وفي النّقد الأدبي الذي برع فيه إلى حدّ كبير.&

وتكشف هذه الأعمال ثقافة عميقة، ومعرفة واسعة بالأدب، وبالتّاريخ، وبالفلسفة، وبالفنون بمختلف انواعها. كما تكشف أن صاحبها اهتمّ بمجالات مختلفة من دون السّقوط في الإبتذال والسّطحيّة. لذا يجد فيها الأدباء والشّعراء ورجال المسرح والمفكرون في حقل العلوم الإجتماعيّة ما ينفعهم ويفيدهم. عن أعمال فالتر بنيامين كتب هاينز فيسمان المتخصّص فيها يقول: "هي تمثّل منشّطًا قويًّا وأساسيًّا لفكر كلّ واحد. غير أنّه ليس علينا أن نقرأها بشكل متواصل".&

&

بطاقة فالتر بنيامين في المكتبة الوطنية في باريس عام 1940

&

قديمًا، في بعض المجموعات البروستانتينيّة، كانوا يمسكون بسكّين في المساء، ثمّ يغرسونه في الإنجيل. بعدها يفتحون على الصّفحة التي تمّ اختيارها بحسب تلك الطريقة، ويقرأون الاية الأولى على يسار أعلى الصّفحة معتقدين أنها هي التي تضيء اللّحظة التي يعيشونها وهم يفعلون ذلك. وأعتقد أنه علينا أن نقرأ بنيامين بهذه الطريقة، أي أن نقرأ ما هو يجذب اهتمامنا، ويضيء ما خفي عنّا في هذا المجال أو ذاك".&

وعن المجد الذي حظي به فالتر بنيامين بعد وفاته، كتبت هانّا اراندت تقول: "المجد الذي يأتي متأخّرًا شيء نادر جدًّا لكي يتمّ تحميل عَمَى العالم، وفساد وسط ادبيّ، مسؤوليّته. وليس بإمكاننا أيضا أن نقول بأنه التّعويض المر الذي يمنح للذين يكونون سابقين لعصرهم كما لو أنّ التّاريخ طريق سباق، فيه يمرّ بعض المتسابقين بسرعة بحيث لا ينتبه لهم المتفرّجون. بل بالعكس، المجد الذي يأتي متأخّرًا بالنسبة لرجل ما عادة ما يكون مسبوقاً باعتراف ذوي القيمة والشأن من أهل زمنه".&

ومعنى ذلك أن فالتر بنيامين حتى وإن أتته الشهرة متأخّرًا، فإنه كان يحظى بتقدير الكبار من الذين كانوا يمثّلون في زمنه المجد الّصاعد للثقافة الالمانيّة من أمثال ادورنو، وبرتولد برشت، وهانّا ارندت وهوفمنستال، وغيرهم.
&
**
&
ولد فالتر بنيامين عام 1896 في برلين. وهو ينتسب إلى عائلة يهوديّة ميسورة ومحافظة، تكاد تكون منغلقة على نفسها. وقد كتب عن طفولته يقول:"في طفولتي كنت سجين النّاحية الغربيّة القديمة، والنّاحية الغربيّة الجديدة من برلين. وكانت عائلتي الموسّعة تسكن في تلك النّاحيتين بهيئة يختلط فيها العناد بالفخر، وفي ذلك "الغيتو" هي تعيش، وتعمل كما لو أنه منطقة نفوذها. وكنت أظلّ محبوسًا في ذلك الحيّ من دون أن أتعرّف على أحياء أخرى. والبؤساء بالنسبة لأطفال الحيّ الأغنياء من أندادي كانوا المتسوّلين". لكن، رغم القيود، والحصار المضروب عليه، تمكّن بنيامين مبكّرا من التحرّر من "الغيتو" العائلي ليتيه في المدينة الكبيرة التي باتت عشيقته التي لا يملّ منها أبدًا.&

ومن خلال جولاته الطويلة فيها، والتي كانت تستغرق أحيانا شطرًا هامًّا من النّهار، اكتشف خفاياها، وأسرارها، وتعرّف على الجسور الرّابطة بين ضفّتي نهر "السبري"، وعلى المكتبات القديمة، وعلى الحدائق الفسيحة، وعلى المتاحف التي تحتوي على كنوز الماضي والحاضر، وعلى تماثيل العظماء من أهل السياسة والفن، وعلى المقاهي التي كانت تحتضن من سيكونون في ما بعد نجومًا في الحركات الطلائعيّة التي برزت في برلين بعد الحرب الكونيّة الأولى.&

وفي ما بعد سيكتب في "طفولة برلينيّة": "ألاّ يجد الإنسان طريقه في المدينة، هذا لا يعني شيئًا. لكن أن يضيع في المدينة مثلما يضيع في غابة، فهذا يتطلّب تدريبًا ودراية. عندئذ لا بدّ أن تتكلّم الشّوارع مع الذي يَضيعُ بلغة ألأغصان اليابسة التي تُطقْطق، وعلى الشّوارع الصّغيرة في قلب المدينة أن تعكس له ساعات النّهار بنفس الصّفاء التي تعكسها الأودية الصغيرة في الجبل".&

هذا الفنّ الذي "تعلّمه متأخّرا"، أي فنّ "التّسكّع" في المدن سيصبح لدى فالتر بنيامين أداة رائعة لاكتشاف مدن أخرى مثل موسكو، ومرسيليا، وفايمار، وخصوصًا باريس التي اقتفى فيها اثار شارل بودلير صاحب"أزهار الشر"، والتي وصفها بـ "القاعة الكبيرة المخصّصة للقراءة في مكتبة يجتازها نهر السّين". فالمدن بالنسبة له لا يؤسسّها المعماريّون فقط وإنّما الشعراء والفنّانون أيضًا :"الشعراء الكبار من دون استثناء يتكهّنون بعالم يأتي بعدهم دائمًا".&

لذلك لم توجد شوارع باريس في قصائد بودلير قبل عام 1900، مثل شخصيّات دوستويفسكي ". وخلال تسكّعه في برلين، اكتشف فالتر بنيامين أيضًا اللذّة الجنسيّة. حدث ذلك في عيد رأس السنة الجديدة بحسب التقويم اليهودي. فقد كلّفته عائلته بزيارة أحد أقاربه كان يقيم في حيّ آخر. غير أنه فقد العنوان. وليتخلّص من الحيرة التي وقع فيها، توجّه إلى محلّ للبغاء ليعيش مغامرته الجنسيّة الأولى. ومن التسكّع في المدينة سيتعلّم فالتر بنيامين أن الإمساك بالتاريخ يتمّ عير الجوانب المخفيّة للحياة، وما تلقيه في سيلانها وتدفّقها اليوميّ وكأنه زائد عن اللّزوم. كما سيهتمّ بالأشياء التي تبدو صغيرة، بل تافهة في نظر الاخرين غير أنّ التمعّن فيها يكشف أنها محمّلة برموز كبيرة، وبمعانٍ عميقة. فالمشاهد العادية في الشوارع يمكن أن تحيل إلى قصيدة عظيمة، أو إلى فكرة كانت مجهولة حتى ذلك الحين. وعندما "يتسكّع" في باريس سوف يكتشف الهوّة الثّقافيّة التي تفصله عن أبناء جيله في ألمانيا. وسوف يحسّ بوحدته بينهم في حين سيجد نفسه في وئام وانسجام مع الحياة الثقافيّة الفرنسيّة.&
&
**
&
في فترة الشباب، أي خلال سنوات الدراسة الجامعيّة، تعلّق فالتر بنيامين بفنّ آخر، ألا هو فنّ اقتناء الكتب وجمعها. كتب في مختلف مجالات المعرفة، خصوصا في مجال التاريخ، والفلسفة، والعلوم الإجتماعيّة، والرواية، والمسرح وغير ذلك. ورغم تعدّد اهتماماته، قرّر أن يكون"أوّل ناقد في الأدب الالماني.&

وفي ذلك كتب يقول: "الهدف الذي رسمته لنفسي هو أن أُعْتبر كأوّل ناقد للادب الألماني. والصّعوبة هو أنه منذ أزيد من خمسين سنة، لم يعد النّقد في ألمانيا معتبرًا كجنس جدّيّ. لكي يكون لواحد مثلي وضعًا وموضعًا فيه، يتوجّب عليه أن يبعث فيه الحياة من جديد". وهو يعتقد أنّ العمل الفنّي يكبر مثل "محرقة مأتميّة". والمعلّق عليه يمكن تشبيهه بالكيميائيّ. أما الذي ينقده فهو مثل الخيميائيّ. وفي حين لا يجد الأوّل من الأشياء التي عليه تحليلها غير الخشب والرّماد، ، يهتمّ الآخر بلغز الشّعلة، أو بالألق ألأخير. وهكذا" تكون وظيفة النّاقد الحقيقيّة هي مساءلة حقيقة العمل الفنّي في الشّعلة الحيّة التي لا تزال مضيئة فوق المحرقة الثقيلة للماضي، وكتلة الرماد الخفيف للحياة التي اندثرت".&
&
وقد بدأ فالتر بنيامين مسيرته الفكريّة بدراسة نقديّة حول "الأنساب المختارة" لغوته. وكانت دراسة عميقة، ومستجيبة لطموحات صاحبها النقديّة والفكريّة محرزة على اعجاب هوفمنستال. لذا سارع بنشرها في المجلّة الأدبيّة التي كان يشرف عليها. وكان ذلك عام 1924. وربّما كانت تلك الدراسة التي كتبت بلغة أخّاذة ومشرقة، قادرة على أن تمنح فالتر بنيامين فرصة فرض نفسه في الحياة الثقافيّة الالمانيّة. وقد تساعده هو الذي كان يعيش حتى ذلك الحين تحت كفالة والده، على أن يضمن لنفسه عملاً قارًّا يريحه على المستوى المادي خصوصًا بعد أن تزوّج وأصبح أبًا لطفل.&

غير أن الحظّ العاثر الذي عاين شبحه منذ سنوات الطفولة كان له بالمرصاد. ففي دراسته المذكورة، انتقد فالتر بنيامين بحدّة كتاب فريدريش غوندولف حول غوته، والذي كان يُعْتبر مرْجعًا أساسيًّا حتى ذلك الحين.. كما أن صاحبه كان يتمتّع بنفوذ خطير في الحياة الثقافيّة الالمانية. لذلك انسدّت الأبواب، والافاق أمام فالتر بنيامين ليجد نفسه وحيدًا، ومعزولاً. حتى هوفمنستال لم يتمكّن من حمايته، وصدّ التهجّمات العنيفة التي شنّت ضدّه من قبل أنصار خصمه، وأيضا من قبل المنتمين إلى حلقة الشاعر ستيفان غيورغ العظيم الجاه، والشأن. وها هو يتجرّع الأسى متذكّرًا أن والدته كانت في صباه تحبّ أن تشبّهه بـ"الأحدب الصّغير" في الأسطورة الالمانيّة، والذي يعتبر رمزًا للفشل في الحياة العمليّة، وفي الحياة عموما. وفي عام 1929، تعرّف فالتر بنيامين الذي كان قد وقع تحت تأثير الماركسيّة على برتولد برشت.&

وفي ما بعد سوف يكتب العديد من الدراسات حول أعماله المسرحيّة. وكان برشت يقول: "الشيء الأساسيّ والجوهريّ هو أن نتعلّم كيف نفكّر بكثافة. الفكر المكثّف هو فكر الرجل العظيم". وقد علقّ فالتر بنيامين على تلك المقولة قائلاً: "هناك كثيرون من الناس يعتبرون الديالكتيكيّ هاويًا للأفكار وللحجج الدقيقة(... ) غير أنّ الأفكار المكثّفة تنتمي هي أيضا للفكر الدياليكتيكيّ لأنّها لا تمثّل شيئًا آخر غير رضوخ اللاّهوت للفعل(البراكسيس)".&

وفي جميع الدراسات التي كتبها في سنوات الإحباطات الكبيرة، خلال العشرينات، ومطلع الثلاثينات، كان فالتر بنيامين "يكتب ويفكر مثل شاعر من دون أن يكون شاعرًا" مثلما تقول هانّا اراندت. من هنا كثرة الصّور، والإستعارات البديعة التي يبتكرها لتوضيح أفكاره.&

ويبرز ذلك بالخصوص في دراسته التي حملت عنوان "أطروحات حول فلسفة التاريخ". وعن ذلك علّقت هانّا اراندت قائلة :"يبدو محتملاً ومستساغًا أن بنيامين الذي كانت حياته الفكريّة قد تأثّرت بغوته، الشاعر وليس الفيلسوف، والذي لم يكن يسترعي انتباهه غير الشعراء والروائيّين تقريبًا رغم أنه دَرَسَ الفلسفة، وجد أن التّواصل مع الشّعراء أسهل وأيسر من التواصل مع المنظّرين من الديالكتييّن والميتافيزيقيّين". ورغم ما أنجزه من دراسات أثارت اعجاب برشت، وارنست بلوخ، وأدورنو، وهوركايمر، وغيرهم، فإنّ فالتر بنيامين ظلّ يشعر دائمًا بأنه "حيّ-ميّت"، وأنه "ملقى بين خرائب أعماله"، وأن "صاري سفينته قد انكسر".&

وفي عام 1933، أي عند صعود النازيّين إلى السّلطة، هاجر فالتر بنيامين إلى باريس ليعيش هناك سنوات من الشقاء والعذاب والترقّب بسب تسارع الفواجع، والأحداث المؤلمة. وفي عام 1939، جرّدته السّلطات النازيّة من الجنسيّة الالمانيّة. وفي خريف نفس العام، وضعته السلطات الفرنسية في معسكر خاصّ بالمهاجرين الألمان، ولم يطلق سراحه إلاّ عندما تدخّل لصالحه أصدقاؤه من أمثال فرانز هاسّل، هيلين هاسّل، وأدريان مونييه، وجزيل فرويند.&

وقد ساعدهم في مسعاهم هنري هوبّنو الذي كان موظّفًا ساميًا في وزارة الخارجيّة الفرنسيّة. وفي بداية الحرب، غادر فالتر بنيامين باريس على عجل خشية أن يقع في قبضة النازييّن. وفي مدينة لورد، علم أن "الغستابو" صادر مكتبته في باريس، والتي كان قد أنقذ القسم ألأعظم منها عندما غادر ألمانيا. وقد أغرقه الخبر الحزين في المزيد من اليأس، والقنوط. وحتى عندما أبلغه صديقه أدورنو بأنه تمكن من أن يحصل له على تأشيرة للهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركيّة، فان حالته النفسيّة ظلت في تدهور مستمرّ.. وفي النهاية لم يتحمّل شبح الحظّ العاثر الذي كان يلاحقه في كلّ لحظة، وفي كلّ خطوة يخطوها، فاختار أن يضع حدًّا لحياته في ظلمة ليل قرية اسبانيّة على سفح جبال البيريني.&
&
فالتر بنيامين ومفهوم التاريخ:
&
من بين المخطوطات التي كانت في الحقيبة اليدوية التي كان يحملها فالتر بنيامين وهو يرغب في اجتياز الحدود الفرنسية -الاسبانية، مخطوط حمل عنوان:"حول مفهوم التاريخ". غير ان هذا المخطوط اختفى مع الحقيبة. لكن بفضل هانا اراندت التي كانت تملك نسخة منه، وصل المخطوط الى الولايات المتحدة الاميركية ليصدر في نيويورك باللغة الالمانية برعاية من اردورنو، ابرز جماعة "مدرسة فرانكفورت" التي كانت انذاك في المنفى.&

غير أن المخطوط المذكور لم يعرف انتشارًا واسعًا انطلاقًا من الخمسينات من القرن الماضي، ليصبح في الثمانينات ومن الآثار الفلسفية الكلاسيكية. ونستشف من خلال قراءته أن فالتر بنيامين كتبه بعد أن بات متيقنًا من اوروبا والعالم&مهدد بكوارث خطيرة بعد تصاعد الفاشية في ايطاليا، والنازية في المانيا. لذلك كتب يقول:"اذا ما انتصر العدو فإن الاموات هم ايضًا لن يكونوا في مأمن.&

وهذا العدو لم ينقطع عن تحقيق الانتصارات". وموضوع "مفهوم التاريخ" مستوحى من لوحة بعنوان"Angelus Novus" للفنان الشهير باول كلي كان قد تحصل عليها فالتر بنيامين في العشرينات. وتمثل اللوحة ملاكًا يبدو وكأنه يتهيّأ للابتعاد عن شيء ما يحدق فيه بقوة. عيناه جاحظتان، وفمه مفتوح، وجناحاه مشرعتان استعدادًا للطيران. ويعتقد فالتر بنيامين أن ملاك التاريخ له نفس هذه الهيئة.&

وهو يدير رأسه باتجاه الماضي. وهناك حيث تبرز امامنا سلسلة من الاحداث، هو لا يرى غير كارثة وحيدة تكون نتيجتها الدائمة والمستمرة مراكمة الخرائب على الخرائب ورميها امام قدميه. وبالتأكيد هو يريد أن يبقى، وأن يوقظ الاموات، وجَمْع ما تهشم وما تكسر. غير ان عاصفة تندفع من الجنة، وتشدّ جناحيه حتى ان الملاك يعجز عن اعادتهما الى وضعهما قبل ان يشرعهما للطيران. وهذه العاصفة تدفعه غصبًا عنه نحو المستقبل الذي يدير له ظهره، في حين ان ركام الاطلال الذي امامه يظل يكبر ويتعاظم الى ان يبلغ السماء. ما نحن نسميه التقدم هو هذه العاصفة.&

ويقول المؤرخ الايطالي انزو ترافرسو ان هذه الرؤية لا تعني ان صاحبها كان يتبنى النظرية الرجعية للتاريخ التي بلورها اوزوالد شبينغلر في مؤلفه المعروف "تدهور الحضارة الغربية"، ولا النظريات الشوفينية الرجعية الاخرى كما هو الحال عند الفرنسي شارل مُورّا، وانما منبثقة من النقد الذي ينتسب الى اليسار الالماني الذي برز في فترة جمهورية "فايمار".&

وأما الفرنسي ريجيس دوبري فيقول: "بنيامين يزعج ويقلق كل تقسيماتنا: المستقبليون، الممثلون للحاضر، والمحافظون. وهو يضع قدمًا في كل حزب. وهو يعلمنا كيف نعيش في الفارق الذي يمكن ان يكون دارة قصيرة كارثية، كما يمكن ان يكون عدم استقرار خصب". وقد كتب ذات مرة يقول:"علينا ان نتعلم كيف نقوم بغزو التراث ضد الامتثالية التي هي بصدد تحييدها". واكثر من فيلسوف، كان بنيامين شاعر المفهوم، ومحرضًا كهربائيًا. يفكر بالصور والاستعارات مثلما يفكر بالخطاب، "صورة تلمع مثل البرق وتهدد بالاختفاء مع كل حاضر لا يتعرف على نفسه فيها".&

ويرى ريجيس دوبري ان الهدف الاساسي لفالتر بنيامين هو بلورة مفهوم للتاريخ يتعارض كليًا مع المفهوم الوضعي والعقلاني للتاريخ الذي كان سائدًا خلال القرن التاسع عشر، والذي كان يقول بأن ما حدث في هذه المرة لن يحدث ثالثة ولا ثانية.&

وهذا المفهوم يدعونا الى ان نروي التاريخ لينبثق معناه من خلال تمازج بين الحاضر والماضي. فقبل أن يكون التاريخ خطابًا، كان التاريخ جملة من الصور والاستعادات والاستطرادات. في الان نفسه، يعتقد فالتر بنيامين بحسب ريجيس دوبري ان المفهوم الماركسي للتاريخ لا يمكن ان يتخلص من الارث المسيحي. ومعنى هذا انه لا بد من العودة الى الماضي لكي نفهم المستقبل. وقد كتب في ذلك يقول: "الماضي محمّل بعلامة سريّة تدله الى الخلاص. أفلا تداعبنا نحن ايضًا نسمة كانت قد داعبت ايضًا من سبقونا؟ واذا ما كان الامر على هذا الوجه، فانه يمكن القول إنه يوجد اتفاق سريّ بين الاجيال الماضية وجيلنا. واذن كان من المنتظر أن نكون على هذه الارض. واذن منحت لنا كما منحت لكل جيل، القوة الضعيفة للمسيحية التي كانت للماضي سطوة عليها".&

ومستخلصا العبرة من مفهوم فالتر بنيامين للتاريخ، يقول ريجيس دوبري:"ما هي العودة الى الديني& غير ان تكون ثورة الذاكرة؟ وقد شعر بنيامين انه ليس علينا ان نتخلص من الارث النبوي. واليوم يثقلنا هذا الارث. وهذا ما يحثنا اكثر على الاهتمام به.&

الانسانية تتقدم، نعم، لكن على مستوى معيّن، الى الوراء، والرمزي عكس العلم والتكنولوجيا. ونظرة سريعة الى الحاضر تسمح لنا بأن نعاين أن البشرية في مناطق مختلفة من عالمنا، تتجه الى المستقبل بالتراجع الى الوراء. وما يفسر الفوضى التي نعيشها راهنًا هو ان الحكومات الغربية لم تنظر الى ماضي افغانستان، وليبيا وسوريا والى بلدان اخرى. ولو ان هذه الحكومات درست تاريخ هذه البلدان، وثقافتها، وانثروبولوجيتها، لكانت ربما اكثر حذرًا. ونحن ضائعون على المستوى الاستراتيجي لاننا فقدنا الوعي بالتاريخ. ونحن رهائن وعبيد اللحظة. وقد قتل التلفزيون الرؤية. وفي غياب النظر الى الوراء، ينعدم التبصّر والتوقّع والتقدير".&
&