محمد م. الأرناؤوط 

على رغم التباعد الجغرافي، هناك تشابه بين حالتي البوسنة والعراق، وتحديداً في الاستفتاء الذي أجراه صرب البوسنة في 25 أيلول (سبتمبر) 2016 واعتبرته المحكمة العليا في البوسنة غير دستوري («الحياة» 14/10/2016) والاستفتاء الذي أجراه أكراد العراق في 25 أيلول 2017 ورفضته المحكمة العليا في العراق. وكما أن استفتاء صرب البوسنة له أبعاد إقليمية في البلقان، كذلك فإن استفتاء أكراد العراق له أبعاده الإقليمية في الشرق الأوسط. ربما من حق الصرب والبشناق والأكراد أن يتظلّموا من كونهم الشعوب الوحيدة الموزعة على دول مجاورة عدة ولا تتمتع بـ «دولة قومية» جامعة، ولكن «الدولة القومية» لم تعد قضية تتعلق بتلك الشعوب بل أصبحت مرتبطة بتطور الأوضاع الدولية وأجندات إقليمية لقوى أخرى.

التركة العثمانية

ترتبط حالتا البوسنة والعراق بالإرث العثماني، فالإدارة العثمانية كانت تتعمّد في تشكيل ولاياتها أن تكون متنوّعة في تكوينها الإثني والديني. فالبوسنة، الولاية العثمانية، التي تحوّلت في 1945 إلى جمهورية في الفيديرالية اليوغسلافية ثم الى دولة مستقلة في 1992، كانت تجمع بين البشناق المسلمين والصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك، كما أن ولايات البصرة وبغداد والموصل (التي تشكل منها العراق في 1920) كانت تجمع بين العرب السنة والشيعة والأكراد، بالإضافة إلى بعض الأقليات. ولكن النزعة القومية التي ظهرت في البلقان أولاً ثم في الشرق الأوسط استلهمت نموذج «القومية الإثنية» في أوروبا الوسطى التي تستلهم حدودها من الماضي وليس نموذج «الدولة القومية» القائمة بالفعل في أوروبا الغربية. ولذلك، فقد كان التحول نحو «الدولة القومية» سواء في اليونان أو تركيا الكمالية مأساة للشعوب الموجودة ضمن الحدود الجديدة هنا وهناك، وأجبرت اتفاقية لوزان 1923 مئات الألوف من اليونانيين على مغادرة الأناضول إلى «الدولة القومية» بحدودها الجديدة في اليونان، مع أن معظمهم كان يعيش منذ قرون في موطنهم وبعضهم لا يعرف حتى اللغة اليونانية، كما تمّ ترحيل كل المسلمين تقريباً من «الدولة القومية» في اليونان بحجة أنهم من الأتراك مع أن معظمهم لا تربطه أية علاقة بتركيا ولا يعرف اللغة التركية. كان المطلوب هنا وهناك أن تتطابق «الدولة القومية» الموجودة في الذهن مع السكان الموجودين على الأرض ولو أدى هذا إلى تهجير جماعي لعناصر غير مرغوب فيها ضمن حدود «الدولة القومية» الجديدة. وصدرت في السنوات الأخيرة دراسات عن شرق المتوسط (تركيا واليونان) تتناول هذه الحصيلة المؤلمة لانحسار التنوّع الإثني والثقافي لمصلحة «الدولة القومية» لكتّاب يهود مثل ناثان شاكار «العالم المفقود لرودس» (2013) وكتاب ديفن نار «سالونيك اليهودية» (2014) وكتاب مارك دافيد باير «الدونمة – مرتدون يهود وثوار مسلمون وأتراك علمانيون (2016).

في البوسنة، التي كانت رمز التعايش في العهد العثماني حتى أنه كان يطلق على عاصمتها سراييفو اسم «القدس الأوروبية»، كانت فكرة «الدولة القومية» تنسف التعايش على النمط الموجود في سويسرا القريبة بين مكونات ثلاثة مختلفة، لأن الأيديولوجية القومية كانت تعطي الحق للصرب والبشناق والكروات بـ «دولة قومية». صحيح أن جمهورية صربيا تعتبر «الدولة القومية» للصرب ولكن قيادة «جمهورية الصرب» في البوسنة (التي تحتل 49 في المئة من مساحة البلاد) أصبحت تعتبر من حقها أن تنضم إلى «الدولة القومية» المجاورة ، وهو ما يمكن أن يشجع صرب الجبل الأسود وغيرهم على ذلك. وإذا كان الصرب في البوسنة يريدون ذلك فإن الكروات بدورهم يفضلون أن ينضموا إلى «الدولة القومية» المجاورة (كرواتيا). أما حالة البشناق فهي أقرب إلى الأكراد حيث يقال أن البشناق هم الشعب الوحيد في البلقان الذي لم يتمتع بـ «دولة قومية». فالبشناق يشكلون حوالى 50 في المئة من سكان البوسنة ولكنهم يمتدون أيضاً عبر الحدود إلى صربيا والجبل الأسود في كتلة واحدة (بشناقستان) كما هو الأمر مع كردستان.

ولكن الأمر لا يرتبط فقط بالأيديولوجية القومية التي تخفي مصالح القيادات وتبرر ذلك بمصلحة الشعوب ولكن أيضاً بالأجندة الإقليمية للقوى المعنية بالمنطقة لأسباب مختلفة. ففي البلقان، سعى الاتحاد الأوروبي منذ 2003 إلى «تأهيل» دول المنطقة بقيم «دولة القانون» و «دولة كل المواطنين» لكي تنضم بالتدريج إلى الاتحاد، وهو ما انتهى إلى ضم كرواتيا ومنح صربيا والجبل الأسود (مونتنغرو) وألبانيا ومقدونيا وضعية «دولة مرشحة». ولكن مع تطور الأوضاع منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014 وإعلان الاتحاد الأوروبي سلسلة من العقوبات ضد روسيا ثم توتر العلاقات بين تركيا الأردوغانية والاتحاد الأوروبي منذ 2016، يعمل محور موسكو - أنقرة على مناكفة الاتحاد الأوروبي في الخاصرة الرخوة (البلقان) وذلك بدعم أفكار ومشاريع «الدولة القومية» عوضاً عن الحدود الحالية التي تضم التنوع الإثني والثقافي.

في حالة البوسنة، تصرح قيادة «جمهورية الصرب»، التي تحظى بدعم قوي من موسكو، علانية، بسعيها إلى الانضمام إلى جمهورية صربيا وتحقيق الطموح الصربي بـ «توحيد الصرب» في «دولة قومية» واحدة، وهو ما يدغدغ مشاعر الصرب في جمهورية الجبل الأسود المجاورة (30 في المئة من سكان البلاد) التي حاولت موسكو دعم انقلاب فيها خلال تشرين الأول (اكتوبر) 2016 لمنعها من الانضمام إلى حلف الناتو. وفي هذه الحالة، يشكو البشناق (حوالى 50 في المئة من سكان البوسنة) من أنهم الشعب الوحيد في البلقان الذي لم يحظ بـ «دولة قومية» خاصة به، وهو ما يحيي آمال بعضهم بدولة واحدة تضم البشناق (بشناقستان) الذين ينتشرون في كتلة واحدة تتوزع على دول عدة في المنطقة مثل كردستان. وتقوم تركيا الأردوغانية بمناكفة الاتحاد الأوروبي بدعم البشناق في هذا التوجه وكذلك دعم الألبان الذين يتوزعون في خمس دول مجاورة (ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا وصربيا والجبل الأسود) لكي يكونوا في «دولة قومية» واحدة.

 

سويسرا الأخرى

تشكل «الدولة القومية» الموعودة نفياً لدول قائمة على التعدّد الإثني والثقافي كانت تعد بأن تكون على نمط «سويسرا البلقان»، مثل «جمهورية البوسنة والهرسك» و «جمهورية مقدونيا» (وكلتاهما لا تحملان في الاسم دلالة قومية)، وهو ما يعني رسم خريطة جديدة للبلقان تتعارض تماماً مع ما يعمل الاتحاد الأوروبي له منذ 2003. ولذلك، فقد «انفجر» الرئيس الفرنسي ماكرون منذ أيام عندما وضع دول البلقان أمام خيارين: إما أن تأخذ بالقيم الديموقراطية للاتحاد الأوروبي أو أن تدير ظهرها له وتتوجه إلى روسيا وتركيا (جريدة «داناس» الصربية 27/9/2017).

في الشرق الأوسط، ليس محور موسكو- أنقرة وحده من يقرر مستقبل المنطقة ومصير «كردستان»، حيث إن هناك لاعبين آخرين لهم أجندات مختلفة.