عزمي عاشور

 تطرح الانتخابات الرئاسية المصرية التي ستُجرى في نهاية آذار (مارس) المقبل أكثر من علامة استفهام حول الأحزاب السياسية التي من المفترض أن تكون الأرضية السياسية الشعبية التي يستند إليها المرشحون. فالواقع يشير إلى أن هذه الأحزاب لم يعد لها ثقل على رغم الحراك المجتمعي الذي حدث على مدار السنوات السبع الماضية. فقد اختفت عن ثورتي 25 كانون الثاني (يناير) و30 حزيران (يونيو) لمصلحة الحركات الاجتماعية التي لعبت الدور الأساسي فيهما.

هذا التراجع لم يكن وليد الفترة التي أعقبت ثورة يناير، وإنما مؤشراته ظهرت بوضوح قبل ذلك بسنوات عدة، مع ظهور حركة «كفاية» في 2004 بالزخم الكبير الذي أحدثته في المجتمع المصري، وما تولّد عنها من حركات أخرى قادت في النهاية إلى ما حدث من حراك ثوري. ولم يتوقف التفاعل عند هذا الحدث، على رغم ظهور أحزاب سياسية جديدة أثبتت فشلها منذ ظهورها في ظل قوة الدفع التي تقود بها الحركات الاجتماعية دفة التفاعلات. فسرعان ما تسيّدت المشهد مرة أخرى حركة «تمرد» والزخم الذي خلقته في الرأي العام لتساهم في أقل من ثلاثة أشهر في إسقاط حكم «الإخوان». وعندما أجريت الانتخابات الرئاسية عقب ذلك، لم يقف وراء الفائز بها حزب سياسي قوي، وإنما كان فوزه بفضل قوة الدفع التي تولدت عن هذا الحراك الرافض وجودَ الإسلاميين.

هذا الحراك المجتمعي سواء سُمّي بالحركات الاجتماعية أو بالكتلة غير الحــــزبية داخل المجتمع، هو نتيجة للظروف الســـياسية المتردية، فتلك الحركات جاءت مــــن مجتمعات فشلت فيها الأحزاب السياسية ولم تستطع أن تكون فاعلة نظراً الى عدم تجذر ديموقراطية حقيقية في الحياة السياسية. كان وجودها مثل عدمه، الأمر الذي خلق قنوات جديدة يتنــفس من خلالها الأفراد سياسياً. فإذا كانت المجتمعات الديموقراطية بتجربتها الطويلة وُجِدت فيها أحزاب قوية، ففي المقابل، في فترة ما قبل ثورات الربيع العربي وُجِدت في مجتمعاتنا أحزاب مصطنعة تعبّر عن شخصية الحاكم ومصالحه أكثر ما تعبّر عن المجتمع في ذلك الوقت. فكان للتحولات الكبيرة في عصر الفضائيات وظهور الإنترنت بتطبيقاتها المختلفة التأثير الأكبر داخل هذه المجتمعات المنغلقة سياسياً.

هكذا خلق العالم الافتراضي واقعاً موازياً فاقَ في تأثيره ما هو موجود من أحزاب سياسية ضعيفة، فأصبح داعماً قوياً لأي تفاعلات لهذه الحركات على أرض الواقع. فما فعلته حركة مثل «كفاية»، عجزت أحزاب تاريخية في مصر عن أن تفعله، بل كانت رموزها تحاول الانتساب إليها على استحياء. وبالمثلـ، ما فعلته حركة «تمرد» في سنة حكم «الإخوان» والحراك الذي انتفض في وجههم سواء عقب الإعلان الدستوري الشهير في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 أو في تظاهرات 30 حزيران 2013 التي أدت إلى إسقاطهم. وكلها كانت بسبب هذا الواقع الجديد بحراكه المجتمعي الذي أصبح يعتمد على أدوات غير تقليدية في عملية الحشد والتفاعل المباشر مع الشارع. فمؤشرات موت الأحزاب جرس إنذاره الأول كان في مجتمعاتنا قبل أن يظهر بهذا الشكل الذي ظهر عليه أخيراً في مجتمعات ديموقراطية كأميركا وفرنسا. فنجاح ترامب جاء نتيجة لرفعه شعارات مضادة للنخبة والمؤسسات القديمة، فهو بمفاجأة فوزه كان امتداداً لهذا الإطار الذي نمَت فيه الكتلة غير الحزبية في المجتمعات الغربية، فكان يكفيه أن يخاطب أنصاره ويستفز خصومه من طريق تطبيقات هذه التكنولوجيا بعد أن دخل في عداء شديد مع الصحافة التقليدية ومع النخب التي تصنع القوة الناعمة الأميركية كالفنانين وغيرهم. وعلى رغم ذلك حقق النجاح.

والسؤال: هل الأحزاب السياسية كإحدى الوسائل التي تتم عبرها المنافسة وتداول السلطة إلى زوال، ليحل محلها هذا الإطار الذي خلقته ظروف الفضاء الإلكتروني والميديا الجديدة التي باتت بدورها تشكل إطاراً أكثر فاعلية من الأحزاب نفسها، فبات المرشح للرئاسة أو غيرها أكثر قدرة على التواصل مع جمهوره الذي يمكن أن يتابعه كل لحظة وكل ثانية من طريق هذه التطبيقات؟ فالأمر لم يعد في حاجة إلى مؤتمرات على مستوى المدن والقرى بواسطة الأحزاب كالمعتاد. وإذا كانت الأحزاب كوسيلة للوصول للحكم قد بدأ يخفت بريقها، فإنه في المقابل الذي ينجح بهذا الطريق في الوصول إلى السلطة بعيداً منها هو في حاجة إلى مؤسسات قوية تحقق برامجه السياسية التي انتخب بناءً عليها، وأي تخلٍ عن هذه البرامج والوعود من الممكن أن يذهب بمَن جاءت به سريعاً.

مثل هذه التغيرات التي حدثت في التفاعلات السياسية سواء في الديموقراطية الغربية أو في مجتمعاتنا العربية، تشير إلى أن السلطوية والأحزاب المصطنعة لم يعد لهما سوق، وأن المجتمعات أصبحت قوية ومتفاعلة عبر طرق أخرى جديدة سواء في رفضها الواقع أو بدعمها إياه، وأن المؤسسات الوسيطة التي تنفذ السياسات، مهما كان دورها، وسواء بالسلب أو الإيجاب، لا يمكنها أن تخدع هذا المواطن المُعَولم، وبالتالي فأي رئيس أو حاكم ينتخب في هذا الشكل لا يستطيع أن يبني سلطوية جديدة حتى لو كان مدعوماً بمؤسسات قوية مع رفض المجتمع بحركاته الاجتماعية كارثية العواقب. فالعمل على البناء والإنجاز بات هو الضمانة الأسلم لاستمرارية الحكم المقبول شعبياً، ولقوة أي مجتمع في ظل هذه التغييرات التي تحدث في طرق الوصول إلى السلطة. وتمثل الانتخابات الرئاسية المصرية المقبلة بروفة لهذا الواقع بسباق رئاسي يُجرى خارج إطار الحياة الحزبية معتمداً على الحراك المجتمعي وفكرة الإنجاز. فهل يستمر هذا السياق أم يفرز الواقع متغيرات سياسية جديدة؟